الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَضَعُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِذَلِكَ.
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَهُ رِيبَةٌ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ جَعَلَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ: مَا كَذَبْت وَلَا كِدْت يُوهِمُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَهُ بِحَالِهِمْ فَيُظْهِرُونَ لَهُ مَا فِي بَاطِنِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَغْسِلُ شَعْرِي حَتَّى أَفْتَحَ مِصْرَ وَأَتْرُكَ الْبَصْرَةَ كَجَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ وَأَعْرُكَ أُذُنَ عَمَّارٍ عَرْكَ الْأَدِيمِ، وَأَسُوقَ الْعَرَبَ بِعَصَايَ فَذَكَرُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ عَلِيًّا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ، وَهَا غُرَّةُ هَامَتِهِ عَلَى مِثْلِ الطَّشْتِ لَا شَعْرَ عَلَيْهَا، فَأَيُّ شَعْرٍ يَغْسِلُهُ بِهَذِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِي حَوَائِجِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا لَهَا فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ عَلَى مَاذَا شَهِدْتُمْ قُلْنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنَّكَ جَعَلْتَ الْجَارِيَةَ لَهَا فَقَالَ: أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ إنَّمَا قُلْت لَكُمْ اشْهَدُوا أَنَّهَا لَهَا، وَأَنَا أَعْنِي الْمِرْوَحَةَ الَّتِي كُنْت أُشِيرُ إلَيْهَا وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي مَعَك حَقًّا قَالَ لَا فَقَالَ احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ: احْلِفْ وَاعْنِ مَسْجِدَ حَيِّك، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِيءٌ فَعَلَّمَهُ الْحِيلَةَ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ - تَعَالَى - أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: ١٨].
وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ بَرِيئًا عَنْ الْحَقِّ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْحَقَّ وَلَا كَانَ يَحِلُّ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ هَذَا لِيَمْنَعَ بِهِ الْحَقَّ، وَمَا كَانَ يَنْفَعُهُ هَذِهِ النِّيَّةُ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنْ كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ لَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِنِيَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنْته فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ لِي؟ فَقَالَ: قُلْ وَاَللَّهِ لَا أُبْصِرُ إلَّا مَا بَصَّرَنِي بِهِ غَيْرِي، وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي يَعْنِي إلَّا مَا بَصَّرَك رَبُّك فَيَقَعُ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ فِي بَصَرِهِ ضَعْفًا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُبُ مِنْهُ فَلَا يَسْتَوْجِسُ بِامْتِنَاعِهِ، وَهُوَ يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَلَا تَكُونُ يَمِينُهُ كَاذِبَةً.
وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute