للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْكَسْبِ فِي مَوْضِعَيْنِ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ مَذْهَبِنَا فَقَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ قَنَعُوا بِمَا يَكْفِيهِمْ وَعَمَدُوا إلَى الْفُضُولِ فَوَجَّهُوهَا لِأَمْرِ آخِرَتِهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَمَا زَادَ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ، وَلَا يُحَاسَبُ أَحَدٌ عَلَى الْفَقْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى فَاحْتَجَّ وَقَالَ: الْغِنَى نِعْمَةٌ وَالْفَقْرُ بُؤْسٌ وَنِقْمَةٌ وَمِحْنَةٌ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ النِّعْمَةَ أَفْضَلُ مِنْ النِّقْمَةِ وَالْمِحْنَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَالَ فَضْلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: ١٠] وَقَالَ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ١٩٨] وَمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَسُمِّيَ الْمَالُ خَيْرًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: ١٨٠]، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا} [سبأ: ١٠] يَعْنِي الْمُلْكَ وَالْمَالَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ سُرِّيَّةٍ فَتَمَنَّى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: ٣٥]، وَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الدَّرَجَةَ الدُّنْيَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ يَدُ اللَّهِ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ وَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي مَرَضِهِ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْغِنَى أَعْلَى مِنْ صِفَةِ الْفَقْرِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْك» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُؤْسِ وَالتَّبَاؤُسِ» الْبُؤْسُ: الْفَقْرُ وَالتَّبَاؤُسُ: التَّمَسْكُنُ وَلَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ

وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ لِلْعِبَادِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ لِلْعَبْدِ مَا يَكُونُ أَسْلَمَ لَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْلَمُ بِالْفَقْرِ مِنْ طُغْيَانِ الْغِنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: ٦] الْآيَةَ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: ١١] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطُّغْيَانِ الْأَغْنِيَاءُ يَعْنِي الَّذِينَ ادَّعَوْا مَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ ثُمَّ صِفَةُ الْغِنَى مِمَّا تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ، وَلَا يُتَوَصَّلُ بِالْفَقْرِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>