وَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: ٥٩] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١٤] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِدَاءِ الْجَيِّدِ عَلَى جَيِّدِ الْفَرَسِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ فُقَرَاءَ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ»، وَفِي الْآثَارِ «إنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - دُخُولًا الْجَنَّةَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُلْكِهِ» «وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَوْمًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا أَبْطَأَك عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إنَّك آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولُ مَا حَبَسَك عَنِّي فَتَقُولُ: الْمَالُ، كُنْت مُحَاسِبًا مَحْبُوسًا حَتَّى الْآنَ» وَكَانَ هُوَ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَكَانَ مَالُهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَانَ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَانَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا، وَفِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَانَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّهِ مَا قَالَ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عُرِضَ عَلَيَّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَاسْتَفْتَيْت أَخِي جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالتَّوَاضُعِ فَقُلْت: أَكُونُ عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْت صَبَرْت، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ»، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَ لِنَفْسِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لَنَا مَا سَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا حَظُّكُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ حَظِّي مِنْ الْأُمَمِ» فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا التَّمَسُّكُ بِهَذَا.
وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُنْسِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ فَقْرٍ مُنْسٍ، وَمِنْ غِنًى يُطْغِي» إلَّا أَنَّهُ قَيَّدَ السُّؤَالَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمُرَادُهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا نَقَلَهُ، كَمَا سَمِعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى
اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، وَهُوَ أَنَّ الشُّكْرَ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ أَمْ الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي جَوَابِهَا لِتَعَارُضِ الْآثَارِ وَقَالَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَوَقَّفَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ فِيهِمْ وَقَالَ إذًا فَيُقْتَدَى بِهِ وَيُتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute