أَيْضًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا سَوَاءٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالْجَائِعِ الصَّابِرِ»، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى عَبْدَيْنِ وَأَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِعْمَ الْعَبْدُ أَحَدُهُمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ، وَهُوَ دَاوُد قَالَ اللَّهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ} [ص: ٣٠] الْآيَةَ وَالْآخَرُ اُبْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَهُوَ أَيُّوبُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: ٤٤] الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الشُّكْرُ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ أَنَّ جَمِيعَ الدُّنْيَا صَارَتْ لُقْمَةً فَتَنَاوَلَهَا عَبْدٌ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ بِمَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِمَّا أُوتِيَ» يَعْنِي لِمَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَبَيَّنَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّبْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا} [سبأ: ١٣]، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ أَفْضَلُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ»، وَلِأَنَّ فِي الْفَقْرِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالصَّبْرُ عَلَى الِابْتِلَاءِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ، يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَلَمِ الْمَرَضِ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْعَمَى أَفْضَلُ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى الْبَصَرِ «قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَخَذْت كَرِيمَتَهُ وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ لَهُ عِنْدِي إلَّا الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ الْجَنَّةُ وَالرُّؤْيَةُ»، وَهَذَا الْفِقْهُ، وَهُوَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابًا فِي نَفْسِ الْمُصِيبَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُشَاكِهِ فِي رِجْلِهِ»
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ «أَنَّ مَاعِزًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ أَصَابَهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَوْعَ اضْطِرَابٍ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ: لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ» فَعَرَفْنَا أَنَّ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابٌ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا فَأَمَّا نَفْسُ الْغِنَى فَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى وَمَا يُنَالُ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا يُنَالُ فِيهِ الثَّوَابُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا أَنَّ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ كَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: ١٥٦] الْآيَةَ.
وَحُكِيَ أَنَّ غَنِيًّا وَفَقِيرًا تَنَاظَرَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ: أَنَا أَفْضَلُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [الحديد: ١١] الْآيَةَ وَقَالَ الْفَقِيرُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَسْتَقْرِضُ مِنْ الْخَبِيثِ وَغَيْرِ الْخَبِيثِ، وَلَا يُسْتَقْرَضُ إلَّا الْأَجَلُّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْتَاجُ إلَى الْفَقِيرِ، وَلَا يَحْتَاجُ الْفَقِيرُ إلَى الْغَنِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَلْزَمُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute