فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي كَسْبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَلَا يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ، كَمَا فَعَلَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ {إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: ٢٤]، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ٣٢] وَقَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ وَالشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ»
(قَالَ: وَالْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ يُقِيمُ بِالْأَخْذِ فَرْضًا عَلَيْهِ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ فَهُنَا الْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِعْطَاءِ يُؤَدِّي لِلْفَرْضِ وَالْآخِذُ فِي الْأَخْذِ مُتَبَرِّعٌ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَكْتَسِبَ وَدَرَجَةُ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْمُتَبَرِّعِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي النَّوَافِلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَعَمَلُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْدَأْ بِنَفْسِك» مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بِنَفْسِ الْأَدَاءِ يُفْرِغُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَالْآخِذُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بَلْ بِالتَّنَاوُلِ بَعْدَ الْأَخْذِ، وَلَا يَدْرِي أَيَبْقَى إلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوْ لَا يَبْقَى، وَلِهَذَا لَا مِنَّةَ لِلْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ لِلْغَنِيِّ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْمَلُ لِلْغَنِيِّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْحَالِ لِيَصِلَ إلَيْهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُهُ لِلْحَالِ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْفُقَرَاءُ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ فِي ذَلِكَ مَأْثَمٌ بَلْ يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اجْتَمَعَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِنَّةَ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ
وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ إنْ كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَالْمُعْطِي هُنَا أَفْضَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمَا يُعْطِي سَلَخَ عَنْ الْغِنَى وَيَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ وَالْآخِذُ يَتَمَاثَلُ إلَى الْغِنَى وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَةَ الْفَقِيرِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ فَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ بِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ، وَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ لِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى دَرَجَةً؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ بِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: ٧] وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ بِالْإِعْطَاءِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْأَخْذِ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَفِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ دَاعِيَةٌ إلَى الْأَخْذِ دُونَ الْإِعْطَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ فِي تَصَدُّقِهِ بِدِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَكْسِرَ شَهَوَاتِ سَبْعِينَ شَيْطَانًا»، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي الْإِعْطَاءِ أَظْهَرَ كَانَ أَفْضَلَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ «وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ» وَالْآخِذُ يُحَصِّلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute