للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لِنَفْسِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُعْطِي يُخْرِجُ مِنْ مِلْكِهِ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ

وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ مُقْتَرِضًا بِأَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ فَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْمُعْطِي أَفْضَلُ أَيْضًا وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - الْآخِذُ أَفْضَلُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ مُقِيمٌ بِهِ فَرْضًا عَلَيْهِ وَالْمُعْطِي مُتَنَفِّلٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ التَّنَفُّلِ، وَلِأَنَّ الْآخِذَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا كَانَ آثِمًا وَالْمُعْطِي لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِعْطَاءِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُعْطِيهِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالثَّوَابُ مُقَابَلٌ بِالْعُقُوبَةِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَّدَ نِسَاءَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ غَيْرَهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب: ٣٠] الْآيَةَ ثُمَّ جَعَلَ لَهُنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ ضِعْفَ مَا لِغَيْرِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: ٣١]، فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ فِي حَقِّ الْآخِذِ دُونَ الْمُعْطِي فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ لِلْآخِذِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمُعْطِي، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُشْكِلٌ بِرَدِّ السَّلَامِ، فَإِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالسَّلَامِ أَفْضَلَ مِنْ الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِلْبَادِئِ بِالسَّلَامِ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَلِلرَّادِّ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» وَرُبَّمَا يَقُولُونَ الْآخِذُ يَسْعَى فِي إحْيَاءِ النَّفْسِ وَالْمُعْطِي يَسْعَى فِي تَحْصِينِ النَّفْسِ أَوْ فِي إنْمَاءِ الْمَالِ وَإِحْيَاءُ النَّفْسِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ إنْمَاءِ الْمَالِ

وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ بَيْنَ السُّفْلَى بِالْأَدَاءِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَخْذِ مِنْ الْعَيْنِ وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: ١٠٤] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ أُحُدٍ» فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا فِي الْمَعْنَى يَدُ الْفَقِيرِ، قُلْنَا: هَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ: يَدُ اللَّهِ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَبِهَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي، وَلِأَنَّ الْمُعْطِيَ يَتَطَهَّرُ مِنْ الدَّنَسِ بِالْإِعْطَاءِ وَالْآخِذَ يَتَلَوَّثُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: ١٠٣] الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي أَدَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>