أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَنْفِرُ إنْ أَحَبَّ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْغَدِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ٢٠٣].
(قَالَ) وَقَدْ كَانَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ إذْ قَدَّمَهُمْ قَبْلَهُ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ شُغْلُ الْقَلْبِ مِنْ إتْمَامِ سُنَّةِ الرَّمْيِ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ، فَلِهَذَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ.
(قَالَ) ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً، وَهَذَا اسْمُ مَوْضِعٍ «قَدْ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يُسَمَّى الْمُحَصَّبَ وَالْأَبْطَحَ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ: لَيْسَ النُّزُولُ فِيهِ بِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» اتِّفَاقًا، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْدًا عَلَى مَا رَوَى أَنَّهُ «قَالَ لِأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِمِنًى إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هِجْرَانَ بَنِي هَاشِمٍ» فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نُزُولُهُ إرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَيَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ
(قَالَ) ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَطَوَافَ الصَّدَرِ؛ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ بِهِ الْبَيْتَ، وَيَصْدُرُ بِهِ عَنْ الْبَيْتِ.
(قَالَ) ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ، وَيَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْتَزِمَهُ سَاعَةً يَبْكِي، وَيَتَشَبَّثَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَيُلْصِقَ جَسَدَهُ بِالْجِدَارِ إنْ تَمَكَّنَ، ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى بَدَنِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ، وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فَوَاتِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ.
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ الَّذِي أَرَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، وَقَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ»
(قَالَ) وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بَاتَ بِهَا فَنَامَ مُتَعَمِّدًا أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْإِسَاءَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُؤَدِّبُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَامِ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَلَكِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute