تَعْدِلُ عِنْدَكُمْ النَّسْخَ ثُمَّ هَذَا سَفَرٌ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرَائِطَ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْمَرْءِ عَادَةً، وَلَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْمَحْرَمِ فِي إحْرَامِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْرَمِ الْخُرُوجُ مَعَهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَجْلِ هَذَا الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّزَ عَنْ الْفِتْنَةِ، وَفِي اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ فِتْنَةٌ، وَهِيَ تَسْتَوْحِشُ بِالْوَحْدَةِ فَتَخْرُجُ مَعَ رُفْقَةِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ لِتَسْتَأْنِسَ بِهِنَّ، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَإِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَمَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اُخْرُجْ مَعَهَا، لَا تُفَارِقْهَا» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَفَرَ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ السَّائِلُ مَا قَالَ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّوْجَ بِأَنْ يَتْرُكَ الْغَزْوَ، وَيَخْرُجَ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْشِئُ سَفَرًا عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ كَسَائِرِ الْأَسْفَارِ بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا لَا تُنْشِئُ سَفَرًا، وَلَكِنَّهَا تَقْصِدُ النَّجَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ هُنَاكَ لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَهُنَا لَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِلْحَجِّ، وَتَأْثِيرُ فَقْدِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ كَتَأْثِيرِ الْعِدَّةِ فَإِذَا مُنِعَتْ مِنْ الْخُرُوجِ لِسَفَرِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَحْرَمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ، وَبِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ تَزْدَادُ الْفِتْنَةُ، وَلَا تُرْفَعُ إنَّمَا تُرْفَعُ بِحَافِظٍ يَحْفَظُهَا، وَلَا يَطْمَعُ فِيهَا، وَذَلِكَ الْمَحْرَمُ، وَتَفْسِيرُهُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِيهَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَذَلِكَ يُسَافِرُ بِهَا.
(قَالَ) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِ مَحَارِمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهَا لَهُ فَلَا يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا تُسَافِرُ مَعَهُ، وَلَا يَخْلُو بِهَا.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَحْرَمَ، وَقَدْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا فَصَارَتْ كَالْمُحْصَرِ تَبْعَثُ بِالْهَدْيِ فَتَتَحَلَّلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ، وَأَرَادَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute