للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً أَفَتُجْزِي الْبَقَرَةُ، فَقَالَ: مِمَّ صَاحِبُكُمْ، فَقَالَ: مِنْ بَنِي رَبَاحٍ، فَقَالَ: وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ، وَإِنَّمَا وَهَمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ ثُمَّ إنْ كَانَ نَوَى أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا إلَّا بِمَكَّةَ كَمَا نَوَى لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ هُنَا بِالزَّمَانِ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْحَرَمُ كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ بِلَفْظَةِ الْهَدْيِ وَهُمَا قَالَا: كَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفَظَّةِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهَدْيِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّقَرُّبِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعِ نَحْرٍ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: لَا عَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ الْجَزُورِ فِي مَعْنَى الْهَدْيِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْقُرْبَةِ كَاسْمِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ اسْمِ الْجَزُورِ وَلِمَعْنَى الْقُرْبَةِ جَعَلْنَا اسْمَ الْبَدَنَةِ مُتَنَاوِلًا لِلْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا عَنْ سَبْعَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْهَدْيِ فَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ

(قَالَ): وَلَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ. وَالْكَلَامُ فِي فُصُولٍ: أَحَدُهَا - أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهَدَايَا سُنَّةٌ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: ٢] وَصَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَلَّدَ هَدَايَاهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ»، وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ نَعْلَ أَوْ قِطْعَةَ أَدَمٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ، قِيلَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا أُعِدَّ لِلتَّطَوُّعِ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَيَصِيرُ جِلْدُهُ عَنْ قَرِيبٍ مِثْلَ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الْجِلْدِ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْهِيرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّشْهِيرَ فِيمَا هُوَ نُسُكٌ دُونَ مَا هُوَ جَبْرٌ، وَلَهَذَا لَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَهَذَا فِيمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الرَّعْيِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ فَإِنَّ الْغَنَمَ يَعْدِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَلِهَذَا يُقَلِّدُ الْغَنَمَ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَلِّدُ الْغَنَمَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ سُنَّةٌ فِي الْهَدَايَا، وَالْغَنَمُ مِنْ الْهَدَايَا، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَثَرٌ، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>