أَنَّ ذِكْرَ مَكَّةَ يَصِيرُ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَصَّ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِكْرَ مَكَّةَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ
(قَالَ): وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْهَدْيَ، وَالْهَدْيُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمٌ لِلْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ التَّصَدُّقُ بِهَا فَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَالتَّصَدُّقُ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِسَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَفِي هَذَا فُقَرَاءُ مَكَّةَ وَفُقَرَاءُ الْكُوفَةِ سَوَاءٌ
(قَالَ): وَكُلُّ هَدْيٍ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَفِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئ عَنْ الْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ، وَلَهَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ وَبَعْدَ الذَّبْحِ صَارَ الْمَذْبُوحُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بِمِنًى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الْهَدَايَا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْأَوْلَى، فَأَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مِنًى مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الشَّاةُ، فَإِنْ نَوَى الْإِبِلَ أَوْ الْبَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي نِيَّتِهِ وَنَوَى التَّعْظِيمَ فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَلَا يَذْبَحُهَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَصْرِيحِهِ بِالْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ قَالَ: عَلَيَّ بَدَنَةٌ، فَإِنْ كَانَ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْبُدْنِ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَهُوَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ أَوْ جَزُورٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ وَالْعِظَمُ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْبَقَرَةَ وَالْجَزُورَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ لَفَظَّةَ الْبَدَنَةِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْجَزُورَ فَإِنَّ سَائِلًا سَأَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute