فَكَانَ الْوَقْتُ لِلصَّوْمِ مِعْيَارًا، وَلَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ فَبَعْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا حَاجَةَ إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْأَدَاءِ فَلِهَذَا صَارَ شَرْعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُنَا الزَّمَانُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلْحَجِّ، وَلَهَذَا صَحَّ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ، وَإِنَّمَا أَدَاؤُهُ بِأَفْعَالِهِ وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَوْ قَلَّدَ الْبَدَنَةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ أَوْ أَمَرَ فَقُلِّدَ لَهُ وَهُوَ يَنْوِي الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ " لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ " وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ فِي التَّحَرُّمِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الشُّرُوعُ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ لَا يَقُومُ الْفِعْلُ فِيهِ مَقَامَهُ حَتَّى لَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ بِنِيَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَبِإِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَكَذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: ٢] إلَى أَنْ قَالَ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: ٢]، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْإِحْرَامِ فَفِي قَوْلِهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: ٢] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَحْصُلُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حَتَّى رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ فَبَعْدَ مَا غَسَلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ نَظَرَ، فَإِذَا هَدَايَاهُ قَدْ قُلِّدَتْ فَقَامَ وَتَرَكَ غَسْلَ الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ: أَمَّا إنْ قُلِّدَتْ هَذِهِ الْهَدَايَا لَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ. وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ وَالصَّوْمَ مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي أَثْنَائِهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّوْمِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّلَاةِ فَيُوَفِّرُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ فَنَقُولُ بِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَبِشَبَهِهِ بِالصَّوْمِ يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرِ إذَا أَتَى بِفِعْلٍ يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّلْبِيَةِ إظْهَارُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَبِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ يَحْصُلُ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ أَيْضًا وَفَرَّقَ بَيْنَ التَّجْلِيلِ وَالتَّقْلِيدِ، فَقَالَ بِالتَّجْلِيلِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَا أُعِدَّ لِلْقُرْبَةِ فَقَدْ تُجَلَّلُ الْبَدَنَةُ لَا عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ إظْهَارًا لِلْإِجَابَةِ، وَكَذَلِكَ بِالْإِشْعَارِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يُشْكَلُ؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَصِيرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute