بِمُبَاشَرَةِ النَّائِبِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِهِ، وَالرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَتْ فِي الْخَثْعَمِيَّةِ فَفِي بَعْضِهَا قَالَتْ: هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ فِي الْحَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، ثُمَّ مُرَادُهَا أَنْ تَزُولَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ عَنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ شَيْخًا؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَعْضُوبُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ إذَا بَذَلَ وَلَدُهُ لَهُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ عَنْهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَبِطَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْقَرَابَاتِ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا بَذَلَتْ الطَّاعَةَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ دَيْنًا عَلَى أَبِيهَا بِقَوْلِهِ «فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ»، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ فَدَلَّ أَنَّ بَذْلَ الْوَلَدِ الطَّاعَةَ يُلْزِمُهُ الْحَجَّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْمَالِ تَكْفِي لِلْإِيجَابِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ بِمَنْفَعَةِ الِابْنِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ.
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ كَثِيرُ مِنَّةٍ عَلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مِنَّةٍ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ مُتَبَرِّعٌ فِي بَذْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ كَغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعُهُ مُوجِبًا لِلْحَجِّ عَلَى الْأَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَوْ بَذَلَ الْمَالَ لِأَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْبَذْلِ فَكَذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْأَبُ مِنْ مُكَافَأَتِهِ إذَا اسْتَفَادَ مَالًا وَهُنَا لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا بَذَلَ مِنْ الطَّاعَةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ بِبَذْلِ الْوَلَدِ الْمَالَ فَبِبَذْلِهِ الطَّاعَةَ أَوْلَى، وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اسْتِطَاعَةُ تَوَصُّلِهِ إلَى الْبَيْتِ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا وَقَائِدًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأَعْمَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَائِدٍ يُهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الضَّالِّ وَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْضُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ، وَالْمَالُ هُنَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ وَبَذْلُ الْقَائِدِ الطَّاعَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ. وَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ، وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَمَا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ يَحُجُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ تَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute