أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُونَ: الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ هُنَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عُقُوبَةً، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: ١٦٠] الْآيَةُ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُونَ الْمَحْرَمِيَّةُ لَا تَثْبُتُ حَتَّى لَا تُبَاحَ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فَاسِدٌ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ لَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ سِوَى الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالتَّعْلِيلِ، وَالْمَنْصُوصُ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ إلَى الْفُرُوعِ لَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ سِوَى الْمَنْصُوصِ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنْ نَقُولَ هَذَا الْفِعْلُ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ كَمَا قَالَ: وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَامَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي جَانِبِهَا الْفِعْلُ زِنًا تُرْجَمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَبِلَتْ بِهِ كَانَ لِذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهَا وَتَحْرُمُ هِيَ عَلَيْهِ. وَثُبُوتُ هَذَا كُلِّهِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ؛ لِأَنَّهُ حَرْثٌ لَا؛ لِأَنَّهُ زِنًا، فَكَذَا هُنَا فَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّا لَا نَجْعَلُ الْحَرَامَ مُحَرِّمًا لِلْحَلَالِ، وَإِنَّمَا نُثْبِتُ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْفِعْلَ حَرْثٌ لِلْوَلَدِ وَحُرْمَةُ هَذَا الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ زِنًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحَرَامِ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ كَمَا إذَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ وَكَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ حَرَامٌ حَرَّمَ الْحَلَالَ لَا؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ بَلْ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هُنَا
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِنْتُ الرَّجُلِ مِنْ الزِّنَا بِأَنْ زَنَى بِبِكْرٍ وَأَمْسَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ بِنْتًا حَرُمَ عَلَيْهِ تَزَوُّجُهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَكُونُ حَرَامًا وَلَهُ فِي الْبِنْتِ الْمُلَاعَنَةُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِالْأُمِّ قَوْلَانِ وَاسْتَدَلَّ، فَقَالَ: نَصُّ التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: ٢٣]، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْبِنْتَ الْمُضَافَةَ إلَيْهِ نَسَبًا وَالْبِنْتُ مِنْ الزِّنَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ نَسَبًا بَلْ هِيَ حَرَامٌ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ نَسَبًا، وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ فِيهَا كَانَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِالزِّنَا وَبِهِ فَارَقَ جَانِبَهَا فَإِنَّ الِابْنَ مِنْ الزِّنَا يُضَافُ إلَى الْأُمِّ نَسَبًا فَكَانَتْ هِيَ حَرَامًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: ٢٣] وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّفْرِيقِ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ شَرْعًا تَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا وَالنِّسْبَةُ إلَى الزَّانِي غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَذَا هُنَا، وَهَكَذَا يَقُولُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي بِنْتِ الْمُلَاعَنَةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: النَّسَبُ هُنَاكَ كَانَ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ لَكِنْ انْقَطَعَ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَيَجُوزُ إبْقَاءُ الْحُرْمَةِ وَهُنَا النَّسَبُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَصْلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute