النَّجَاشِيُّ مِنْهُ وَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا بِالسَّلْطَنَةِ»، وَرُوِيَ «أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ كِتَابَهُ»، وَكِلَاهُمَا حُجَّةٌ لَنَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَأَنَّ الْخِطْبَةَ بِالْكِتَابِ تَصِحُّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ مِمَّنْ نَأَى كَالْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا فَإِنَّ الْكِتَابَ لَهُ حُرُوفٌ وَمَفْهُومٌ يُؤَدِّي عَنْ مَعْنًى مَعْلُومٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِنْ الْحَاضِرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابِ؛ لِعِظَمِ خَطَرِ أَمْرِ النِّكَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ} [المائدة: ٦٧]، وَقَدْ بَلَّغَ تَارَةً بِالْكِتَابِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ يَدْعُوهُمْ إلَى الدِّينِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَبْلِيغًا تَامًّا فَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ الْكِتَابُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهَا فَبَلَغَهَا الْكِتَابُ فَقَالَتْ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ كَمَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ».
وَلَوْ قَالَتْ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ: زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ سَمَاعَ الشُّهُودِ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ شَرْطٌ لِجَوَازِ النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا سَمِعُوا كَلَامَهَا هُنَا لَا كَلَامَهُ، لَوْ كَانَتْ حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ قَرَأَتْهُ عَلَى الشُّهُودِ وَقَالَتْ: إنَّ فُلَانًا كَتَبَ إلَيَّ يَخْطُبُنِي فَاشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ الْخَاطِبِ بِإِسْمَاعِهَا إيَّاهُمْ إمَّا بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ أَوْ الْعِبَارَةِ عَنْهُ وَسَمِعُوا كَلَامَهُمَا حَيْثُ أَوْجَبَتْ الْعَقْدَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَلِهَذَا تَمَّ النِّكَاحُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ إذَا قَالَ: هُنَاكَ بِعْت هَذِهِ الْعَيْنَ مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَمْ يَقْرَأْ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ بِغَيْرِ شُهُودٍ كَمَا فِي الْحَاضِرِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي الْبَيْعِ: أَنَّهُ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ بِعْنِي كَذَا بِكَذَا فَقَالَ بِعْت: يَتِمُّ الْبَيْعُ، وَقَدْ طَعَنُوا فِي هَذَا فَقَالُوا: إنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْحَاضِرِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: بِعْ عَبْدَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَ: بِعْت لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَقُلْ الثَّانِي اشْتَرَيْت؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْبَيْعِ مِنْ لَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي.
بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَالْآخَرُ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى سَوَّيَا بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقُ لِعُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ بِبَغْتَةٍ وَفَلْتَةٍ فَقَوْلُهُ بِعْنِي يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَأَمَّا النِّكَاحُ يَتَقَدَّمُهُ خِطْبَةٌ وَمُرَاوَدَةٌ فَقَلَّمَا يَقَعُ بَغْتَةً فَقَوْلُهُ: زَوِّجْنِي يَكُونُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ.
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ: أَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجِينِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ لِلْعَقْدِ إلَيْهَا، وَكَلَامُ الْوَاحِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ يَصْلُحُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُفَوَّضًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute