للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلم يُرَ أبدًا، وعُدْنَا نَفَرًا قليلًا، وحَدَثَ في الجِمَالِ طاعونٌ؛ تَرَى الجَمَلَ يُبتاع بخمسين دينارًا، فتأخذه الغُدَّةُ فيصيحُ ويرمي بنفسه إلى الأرض، فيُنْحَرُ ويقتسمه الناس، ويرمون رحالهم في البيداء ويَتَعَرَّوْنَ من ثيابهم، ومَضَتْ جِمَالُنا هكذا؛ في حَدِيثٍ طويل بيَّناه في كتاب "ترتيب الرحلة"، ودعت الضرورة إلى أن أمشي رَاجِلًا من فَيْدَ إلى الكوفة خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً لموت الجمال، ومعنا الكِراء لو وجدنا الجمال، لكن الطاعون استولى عليها، ورَمَيْنَا جميع ما كان معنا، ولم يَبْقَ عَلَيَّ إلَّا لِبَاسِي، وكنتُ أمشي مع أصحابنا من الطلبة نتذاكر ونتناظر ونَتَسَلَّى على الرَّجْلَةِ النَّهَارَ كلَّه، حتى إذا جاء الليل وَقَعْتُ على اسم المَيِّتِ، وأوقدنا النار، وقَطَعْنَا لحم أرجلنا، وكَوَيْنَاهَا بالشحم، وربطناها بالخِرَقِ، وكنت أضطجعُ وأقول: هذا مرقدي الذي يبعثني الله ﷿ منه؛ وأنام، فإذا أصبحتُ وجدتُ خِفَّةً، وكأنِّي لم أكن رَجُلَ البارحة، فإذا أخذتُ في المشي عادتْ قُوَّتِي، وتَصَلَّبَ لَحْمِي الأحمر عند مِشْيَتِي، وكانت هذه عادتي في نهاري وليلتي، وأنا أتعجَّب من وُثُوبِ تَجَلُّدِي، وقُوَّتِي بعد ذهاب لَحْمِي وجِلْدَتِي" (١).

وهو نَصٌّ يُظْهِرُ جَلَدَ ابن العربي، وعزيمته في الطلب، ويُظْهِرُ قُوَّتَه ومُنَته، فأي رجل كان، وكيف تأتَّى له هذا؟

وفيه بيانٌ لما كان يعانيه الحاج في حَجَّتِه، فهو مُعَرَّضٌ لمخاطر شتَّى، إن سلم من واحدة لم يضمن السَّلامة من اللَّاحقة، ولا من التي تليهما، لهذا قال من قال من علماء صُقْعِنا: "إن الحج لا يجب على المغاربة" (٢)،


(١) سراج المريدين: (٢/ ٣٨٨ - ٣٩٠).
(٢) سراج المريدين: (٢/ ٣٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>