اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَا: لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَمَاتَ الْوَلَدُ فَانْتَفَخَ ثَدْيُهَا مِنْ اللَّبَنِ فَجَعَلَ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّ، فَدَخَلَ بَعْضُ اللَّبَنِ فِي حَلْقِهِ فَجَاءَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: حَرُمَتْ عَلَيْكَ، فَجَاءَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هِيَ حَلَالٌ لَكَ، فَأَخْبَرَهُ بِفَتْوَى أَبِي مُوسَى فَقَامَ مَعَهُ إلَى أَبِي مُوسَى ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَرَضِيعٌ فِيكُمْ هَذَا لِلِّحْيَانِيِّ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَادَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: إنَّ لِي جَارِيَةً فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَتِي فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَقَالَتْ: خُذْهَا دُونَكَ فَقَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتَكَ فَتَضْرِبَهَا ثُمَّ تَأْتِيَ جَارِيَتَكَ فَتَطَأَهَا، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ انْتِسَاخُ حُكْمِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ فِيهَا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ، فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِثَلَاثِينَ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَدَّرَا ذَلِكَ بِحَوْلَيْنِ وَزُفَرُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِرْضَاعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَإِلَّا فَلَا، وَاسْتَدَلَّا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: ٢٣٣]، وَلَا زِيَادَةَ بَعْدَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: ١٤]، وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ يَكْتَفِي بِاللَّبَنِ وَبَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَكْتَفِي بِهِ فَكَانَ هُوَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: ١٥] وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} [البقرة: ٢٣٣] الْآيَةَ فَاعْتُبِرَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي الْفَصْلَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: ٢٣٣] قِيلَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إذَا أَبَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيهِ بَعْدَهُ وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْسَى اللَّبَنَ وَيَتَعَوَّدَ الطَّعَامَ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ، وَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute