الْفُرْقَةَ كَالْبَيْنُونَةِ، وَالْحُرْمَةِ وَكُلُّ تَطْلِيقَةٍ، أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ بِجُعْلٍ أَبْطَلْتُ الْجُعْلَ وَأَمْضَيْتُ فِيهِ الطَّلَاقَ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِصَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ.
(قَالَ): وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ بِصَدَاقِهَا وَضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ إجَازَتَهَا فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَعَهَا بِالنَّفَقَةِ وَضَمِنَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهَا، فَإِنْ أَجَازَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَهَا أَنْ تَتْبَعَ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهَا كَالصَّدَاقِ، فَلَا يَعْمَلُ إسْقَاطُ الْأَبِ لِحَقِّهَا وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ، وَالْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ فَهُوَ، وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ لَمْ تَحْصُلْ بِمَا الْتَزَمَتْ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ الْتِزَامُهَا صَحِيحًا، وَإِقْدَامُهَا عَلَى الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالتَّنَاقُضُ مِنْهَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرْمَةٍ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اخْلَعْنِي، وَلَك أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْمَالُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاوَ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْبَاءِ مَجَازًا كَمَا فِي الْقَسَمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاَللَّهِ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ فَقَوْلُهَا وَلَك أَلْفٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، أَوْ بِعْنِي طَلَاقِي بِأَلْفٍ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يُعْطَفُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إنَّمَا يُلْصَقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى بَيْتِي وَلَك دِرْهَمٌ كَانَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: احْمِلْهُ بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ حَتَّى يَجِبَ الْمَالُ إذَا حَمَلَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْوَاوَ بِمَعْنَى وَاوِ الْحَالِ، كَقَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَوْلِ الْغَازِي لِلْمَحْصُورِ: افْتَحْ الْبَابَ، وَأَنْتَ آمِنٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ كَانَتْ هِيَ مُلْتَزِمَةٌ الْمَالَ لَهُ حَالَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِوَضًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلْفَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الطَّلَاقِ، وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهَا عَلَى الْبَاءِ، أَوْ وَاوِ الْحَالِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الطَّلَاقِ نَادِرٌ، وَالْمُعْتَادُ فِيهِ الْإِيقَاعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَالْعِوَضُ فِيهِ أَصْلٌ لَا تَصِحُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute