وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَمِينٌ، وَالْحَلِفُ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالُوا: صِفَاتُ الذَّاتِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ كَالْقُدْرَةِ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ، يُقَالُ: رُحِمَ فُلَانٌ، وَلَمْ يُرْحَمْ فُلَانٌ، وَغَضِبَ عَلَى فُلَانٍ، وَرَضِيَ عَنْ فُلَانٍ. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَكَ، وَيُقَالُ: عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْ مَعْلُومُهُ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ اللَّهِ.
(فَإِنْ قِيلَ): وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ الْمَقْدُورُ، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينٌ. (قُلْنَا): مَعْنَى قَوْلِهِ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامُهُ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تُعَايَنُ وَلَكِنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ فَيَقُولُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْجَنَّةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: ١٠٧]، وَإِذَا كَانَتْ الرَّحْمَةُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ، فَالسُّخْطُ وَالْغَضَبُ بِمَعْنَى النَّارِ، فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ عِنْدَنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ الْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا، وَمَا لَمْ يُتَعَارَفْ، الْحَلِفُ بِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَبِرَحْمَتِهِ وَبِغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ: وَعِلْمِ اللَّهِ يَمِينًا، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ: أَنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ، فَقَالَ لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وُجِدَ الْعَرَبُ يَحْلِفُونَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَهِيَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ أَمَانَةُ اللَّهِ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الصِّفَةَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ الْأَمِينِ فَإِنْ قَالَ، وَوَجْهِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمِينٌ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الذَّاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: ٢٧]. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ هُوَ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ أَبُو شُجَاعٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هُوَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ يَمِينًا.
وَإِنْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute