فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الطَّاعَاتُ، كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي «قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ: أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا». وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ يَمِينًا. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَعْنَى وَحَقِّ اللَّهِ وَاَللَّهِ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: ٦]، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَالْحَقِّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَنَّهُ يَمِينٌ كَقَوْلِهِ: وَاَللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون: ٧١]، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْمَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ هَذَا لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَلْفَاظَ الْقَسَمِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ، كَقَوْلِهِمْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي الثَّانِي الْكَلَامُ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ، كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا لِلْمَاضِي بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَفِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذَا اللَّفْظُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَفِي الْمَاضِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَمُوسِ أَيْضًا. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَصِيرُ كَافِرًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَارِي؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ، وَالْيَمِينُ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ، فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ هُوَ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ؟ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ - عَيْنُ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، أَوْ الْيَمِينُ يَتَنَوَّعُ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ٢] قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقِيلَ: حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute