كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَجَعَ إلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ خَالِدٍ التِّرْمِذِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْتُ الْكُوفَةَ قَرَأْتُ كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تُوُفِّيَ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: يَتَخَيَّرُ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ أَيْضًا لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي زَمَانِنَا، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ فِي النَّذْرِ إلَّا الْوَفَاءَ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ، وَلَوْ نُجِّزَ النَّذْرُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ، فَهَذَا مِثْلُهُ، وَتَحْقِيقُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَفِي الِالْتِزَامِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُون مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ. تَوْضِيحُهُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِمَعْنَى الْحَظْرِ؛ لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ لَا يُوجَدُ هُنَا، وَفِي الْقَوْلِ بِالْخِيَارِ لَهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسِ وَاحِدٍ، حَتَّى إذَا قَالَ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ طَعَامُ أَلْفُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ يَقُولُ بِالْخِيَارِ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَبَيْنَ إطْعَامِ أَلْفِ مِسْكِينٍ، وَكَذَا الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ، وَإِنْ قَالَ الْمُعْسِرُ: إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ، يُخَيِّرُهُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ قَوْلُهُ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ»، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ، وَمَا رَوَوْهُ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِمَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ؛ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ هَذَا مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بِالنَّذْرِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَفِيَ بِهَا، فَيَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute