للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُمَا النُّسُكَانِ الْمُتَعَلِّقَانِ بِالْبَيْتِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ، وَإِلَّا بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَشَى، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا»؛ وَلِأَنَّ النُّسُكَ بِصِفَةِ الْمَشْيِ يَكُونُ إثْمٌ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ كَانَ يَقُولُ: لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ {: يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: ٢٧]، فَإِذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدْخَلَ فِيهِ نَقْصًا، وَنَقَائِصُ النُّسُكِ تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَمَانِ فُصُولٍ فِي ثَلَاثٍ يَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ، وَفِي ثَلَاثٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ، أَوْ الرُّكُوبَ وَفِي فَصْلَيْنِ خِلَافٌ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَأْخُذُ فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ، وَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ.

وَلَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ سِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَصَارَتْ مُعَدَّةٌ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عُمِلَتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَيْهَا شَيْءٌ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، وَالْمُلْتَزِمُ بِالْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَصُّ أَدَاؤُهُمَا بِالْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ، وَإِذَا قَالَ: أَنَا أُحْرِمُ إنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أَهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعُدَّ مِنْ نَفْسِهِ عُدَّةً وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَعْدٌ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، وَالْوَعْدُ فِيهِ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِيجَابُ لَزِمَهُ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَإِذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِنِيَّتِهِ، وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيجَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودُ الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْوُجُوبُ دُونَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ

<<  <  ج: ص:  >  >>