للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثَّالِثِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُوهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، فَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ، وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْوُجُودِ بِقَوْلِهِ {: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: ٨٩]، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ لِتَصْحِيحِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ مِنْ الْوَاجِدِ لِلْمَالِ، وَلَكِنَّهُ شُرِطَ لِيَكُونَ الصَّوْمُ كَفَّارَةً يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ كَفَّارَةً لَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا، وَقَوْلٍ آخَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الْوُجُوبِ فِي الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ، وَمَا وَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَاعْتَبَرَهُ بِالْحُدُودِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْوُجُوبِ بِالتَّنَصُّفِ بِالرِّقِّ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ لَا مَا يُكَفَّرُ بِهِ، كَالْوَاجِبِ بِالْحَدَثِ الطَّهَارَةُ دُونَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمُنْعِمِ بِالْجِنَايَةِ وَالنِّعْمَةُ تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ لَا بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، فَإِذَا وَجَبَ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ لَا يَتَكَامَلُ بِالْحُرِّيَّةِ الطَّارِئَةِ مِنْ بَعْدُ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ عَنْ ضَرُورَةٍ مَحْضَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مُوسِرًا فِي إحْدَى الْحَالَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، فَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يُعْسِرَ مُفَرِّطٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيطِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: كَمَا أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ فَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ لِلْأَدَاءِ.

وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ، وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ نَافِذٌ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ بِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِيمَا يَمْلِكُ.

وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتُ أَيْمَانٍ مُتَفَرِّقَةٌ فَأَعْتَقَ رِقَابًا بِعَدَدِهِنَّ، وَلَا يَنْوِي لِكُلِّ يَمِينٍ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا، أَوْ نَوَى فِي كُلِّ رَقَبَةٍ عَنْهُنَّ أَجْزَتْهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ إحْدَاهُنَّ، وَأَطْعَمَ عَنْ الْأُخْرَى، وَكَسَا عَنْ الثَّالِثَةِ، كَانَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي كُلِّهَا سَوَاءً، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّ إعْتَاقَ الْجَنِينِ لَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>