للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ دَوَاءٌ وَإِصْلَاحٌ يَتَحَرَّزُ بِهِ عَنْ الْإِتْلَافِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَحْصُلُ بِالْحَدِّ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ خِزْيٌ وَنَكَالٌ، وَإِنَّمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّكْفِيرُ بِهِ فِي حَقِّ التَّائِبِ، فَإِنَّهُ دَعَاهُ إلَى التَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تُبْ إلَى اللَّهِ»، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَتِمُّ بِقَوْلِهِ تُبْت، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» وَتَمَامُ التَّوْبَةِ بِالنَّدَمِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ مِنْ بَعْدُ مَعَ الْوَجَلِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ

(قَالَ) وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ سُئِلَا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا؛ لِأَنَّ مُبْهَمَ الِاسْمِ مُحْتَمَلٌ، فَإِنَّ مَنْ يَسْتَمِعُ كَلَامَ الْغَيْرِ سِرًّا يُسَمَّى سَارِقًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: ١٨] وَيُقَالُ: سُرِقَ لِسَانُ الْأَمِيرِ، وَمَنْ لَا يَعْتَدِلُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُسَمَّى سَارِقًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً مَنْ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ» فَيَسْتَفْسِرهُمَا عَنْ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ لَهَا، وَلِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَالٍ، وَقَدْ يَكُونُ مُحْرَزًا أَوْ غَيْرَ مُحْرَزٍ، وَقَدْ يَكُونُ نِصَابًا وَمَا دُونَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُمَا عَنْ الْمَاهِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا مَتَى سَرَقَ؟ وَأَيْنَ سَرَقَ؟ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ، وَلَا يُقَامُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَسْأَلُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ مِمَّنْ سَرَقَ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ حَاضِرٌ يُخَاصَمُ وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا بَيَّنُوا جَمِيعَ ذَلِكَ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُ الشَّاهِدَيْنِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ فَيُحْبَسُ، وَلَا يُمْكِنُ التَّوَثُّقُ بِالْكَفِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَذَّرُ تَلَافِيهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ، فَلِهَذَا حَبَسَهُ فَإِنْ زَكَّيَا وَقِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابٌ كَامِلٌ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ إلَّا بِحَضْرَتِهِ.

وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّرِقَةِ وَحَبَسَهُ كَالزِّنَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدٌّ هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إذَا أَقَرَّ السَّارِقُ بِالسَّرِقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِقَطْعِهِ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى فِي الْمَالِ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ جَمِيعًا عِنْدَ الْأَدَاءِ، وَعِنْدَ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ فِعْلِ السَّرِقَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ، فَإِذَا قَطَعَ قَبْلَ حُضُورِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>