للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِهِ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَةِ الْمَفْقُودِ وَوَكِيلِهِ فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ، إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْقَاضِي فَيَقْضِيَ بِهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ. (فَإِنْ قِيلَ:) الْمُجْتَهِدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ.

(قُلْنَا:) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً، وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ.

وَإِنْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ حَقًّا مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالِبٍ بِاسْتِحْقَاقٍ لَمْ يُلْتَفَت إلَى دَعْوَاهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَكِيلُ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ خَصْمًا لَهُ. أَمَّا الْوَكِيلُ فَلِأَنَّهُ نُصِّبَ لِلْحِفْظِ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَلِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ، فَإِنْ رَأَى الْقَاضِي سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِذَا رَجَعَ الْمَفْقُودُ حَيًّا لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ الْقَاضِي أَوْ وَكِيلُهُ بِأَمْرِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَغَلَّتِهِ وَدَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَفْقُودِ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَنْفَقُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إلَى النَّفَقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ وَسِعَهُمْ أَخْذُهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ طَعَامٌ فَأَكَلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ ثِيَابٌ فَلَبِسُوهَا لِلْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ إنْ بَاعُوا شَيْئًا مِنْهُ كَانُوا ضَامِنِينَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِي لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ. فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ بَيْعَهُ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ الْقَاضِي مَا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ حَجْرًا عَلَى الْغَائِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ فَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ تَعَنُّتِهِ وَامْتِنَاعِهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي دَيْنَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِهِ.

وَكَذَلِكَ مَهْرُ امْرَأَتِهِ، وَالنَّفَقَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مِلْكِهِ بَلْ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَفْقُودِ مَالٌ، وَطَلَبَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَلْ يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا: يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ، وَقَالَ: لَا يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ. فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ هِنْدَ كَمَا رَوَيْنَا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ نَفَقَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>