للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْمِلْكِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا، وَالِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالِاسْتِهْلَاكِ بِالْقَتْلِ.

وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَغْصُوبِ لِوَجْهَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ، وَالتَّفْوِيتُ بَعْدَ التَّفْوِيتِ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَتَحَقَّقُ.

(وَالثَّانِي) أَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا، وَتَكْرَارُ الْغَصْبِ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا، فَلَا يُعْتَبَرُ كَتَكْرَارِ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَاقٍ بَعْدَ بَيْعِ الْغَاصِبِ كَمَا بَعْدَ غَصْبِهِ.

وَالِاسْتِهْلَاكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَفْوِيتِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ بِتَفْوِيتِ الْمِلْكِ فِيهِ حُكْمًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ.

(فَإِذَا) ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ: السَّبَبُ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا: إنَّ الْغَصْبَ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الضَّمَانِ الثَّابِتِ بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ عَنْهُ نَسَخَ فِعْلَهُ بِإِعَادَتِهِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ لَا اكْتِسَابِ غَصْبٍ آخَرَ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا إلَّا بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تُفْرَدُ بِالْغَصْبِ، فَلَا تُفْرَدُ بِضَمَانِ الْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْغَصْبِ مَلَكَ الْأَصْلَ بِزِيَادَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ هُنَا، وَبَيْعُ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهَا؛ لِأَنَّ ذَاكَ ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَالزِّيَادَةُ تُفْرَدُ بِالْإِتْلَافِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ السَّبَبِ الثَّانِي هُنَاكَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِالْغَصْبِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ السَّبَبِ الثَّانِي فِي حَقِّ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا، ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْقَتْلِ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَةَ لَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَاسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هَلْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً، ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَجَعَلَ يُفَرِّقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>