للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَائِعِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاهِبُ بِالتَّسْلِيمِ مُحَوِّلًا يَدَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ غَاصِبَ الْغَاصِبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ إلَى نَفْسِهِ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ يَدٌ مُفَوِّتَةٌ لِيَدِ الْمَالِكِ فَتُحَوَّلُ إلَيْهِ بِصِفَتِهِ.

وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى حَرْفٍ آخَرَ فَقَالَ: (لَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَسَقَطَ مِنْهَا حَائِطٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَعَطِبَتْ أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا فَاحْتَرَقَ كَانَ ضَامِنًا)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَقَارَ لَوْ كَانَ يُضْمَنُ بِالِاسْتِيلَاءِ لَكَانَ يُضْمَنُ بِأَوَّلِ أَسْبَابِهِ، وَهُوَ الدُّخُولُ كَالْمَنْقُولِ، وَلَكِنَّ عُذْرَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ، وَذَلِكَ بِالدُّخُولِ لَا يَحْصُلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّكْنَى، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا بِالْمِيرَاثِ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَمَاتَ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا شَيْئًا

(وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ، وَهُوَ سَاكِنٌ هَذِهِ الدَّارَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْيَدِ لِلْأَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ) بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ فَبِمُجَرَّدِ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ تَثْبُتُ يَدُهُ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ، وَهُوَ لَابِسٌ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ رَاكِبٌ هَذِهِ الدَّابَّةَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ، وَالْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ، فَظَهَرَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ لِلدَّارِ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ بَيِّنَةٌ، فَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ، ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِلْمَالِكِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغَصْبِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ مِنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعُوا ضَمَّنُوا قِيمَتَهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقِيلَ: ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ تَسْلِيطَهُمَا الْغَيْرَ عَلَى الدَّارِ بِالشَّهَادَةِ كَتَسْلِيطِ الْغَاصِبِ عَلَى الدَّارِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ إتْلَافُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَهُنَا إتْلَافُ الْمِلْكِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بَلْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ ضَامِنًا، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْجُحُودِ فِي الْوَدِيعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: جُحُودُ الْوَدِيعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>