للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغَاصِبِ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَجْرٌ، وَعَلَّلَ فَقَالَ: (لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ، وَالْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهِ؛ وَلِهَذَا تَخْتَلِفُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَنْفَعَتِهِ، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الْمَنْفَعَةُ لِإِيجَابِ ضَمَانِ الْعَيْنِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِإِيجَابِ ضَمَانِهَا مَقْصُودًا، وَالْمَنْفَعَةُ كَالْكَسْبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَسْبِ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَتَقَاعَدُ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ السَّاكِنَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِلدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَالْأَصَحُّ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ زَوَائِدُ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ مَضْمُونًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ، وَالْيَدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ تَثْبُتُ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَيْنِ، وَعِنْدَنَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِيَدٍ مُفَوِّتَةٍ لِيَدِ الْمَالِكِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ، ثُمَّ انْتِقَالُهَا إلَى يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى تَكُونَ يَدُهُ مُفَوِّتَةً لِيَدِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْغَصْبِ عِنْدَنَا.

فَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَيَقُولُ: عِنْدَنَا الْمَنَافِعُ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تُضْمَنُ، وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ اسْتَسْخَرَ حُرًّا وَاسْتَعْمَلَهُ عِنْدَهُ يَضْمَنُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَعِنْدَنَا يَأْثَمُ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى مَا صَنَعَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا.

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْعَيْنِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ عِنْدَنَا، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ، وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّلَ الْمَنْفَعَةِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ، وَرَأْسُ مَالِهِمْ الْمَنْفَعَةُ، وَقَدْ يَسْتَأْجِرُ الْمَرْءُ جُمْلَةً وَيُؤَجِّرُ مُتَفَرِّقًا لِابْتِغَاءِ الرِّبْحِ كَمَا يَشْتَرِي جُمْلَةً وَيَبِيعُ مُتَفَرِّقًا، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ يُسْتَأْجَرُ لَهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْمَالِيَّةِ مِثْلُ الْأَعْيَانِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صَدَاقًا، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا، وَهَكَذَا يَقُولُهُ فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ أَنَّهُ مَالٌ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَبَسَ حُرًّا لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَابِسِ إتْلَافُ مَنَافِعِهِ، وَلَا إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَيْهِ بَلْ مَنَافِعُ الْمَحْبُوسِ فِي يَدِهِ كَثِيَابِ بَدَنِهِ، وَكَمَا لَا يَضْمَنُ ثِيَابَ بَدَنِهِ بِالْحَبْسِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ، وَلَئِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَالًا فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُقَوِّمُ الْأَعْيَانَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَكُونَ مُتَقَوِّمَةً بِنَفْسِهَا، وَلِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، وَيُضْمَنُ بِهِ صَحِيحًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ فَاسِدًا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ

<<  <  ج: ص:  >  >>