مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالنُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ، وَبِفَضْلِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَبَيَّنُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ شَرْعًا كَمَا بِالْإِتْلَافِ، وَهَذَا بِخِلَافِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَمَّ مِسْكَ غَيْرِهِ لَا يُضَمَّنُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ، وَلَكِنَّهَا بُخَارٌ يَفُوحُ مِنْ الْعَيْنِ كَدُخَانِ الْحَطَبِ؛ وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ مِسْكًا لِيَشُمَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْعَقْدِ أَيْضًا صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا. وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُمَا حَكَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَأَوْجَبَا عَلَى الْمَغْرُورِ رَدَّ الْجَارِيَةِ مَعَ عُقْرِهَا وَلَمْ يُوجِبَا قِيمَةَ الْخِدْمَةِ مَعَ عِلْمِهِمَا أَنَّ الْمَغْرُورَ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا، وَمَعَ طَلَبِ الْمُدَّعِي بِجَمِيعِ حَقِّهِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ لَمَا حَلَّ لَهُمَا السُّكُوتُ عَنْ بَيَانِهِ، وَبَيَانُ الْعُقْرِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ بَيَانًا لِقِيمَةِ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ؛ وَلِهَذَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّمَوُّلِ، وَالتَّمَوُّلُ صِيَانَةُ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كَمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلَاشَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّلُ؛ وَلِهَذَا لَا يُتَقَوَّمُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الثُّلُثِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ، وَالْإِحْرَازُ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: الْإِتْلَافُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْلَافِ لَا يُحِلُّ الْمَعْدُومَ. وَبَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَبْقَى لِحِلِّهِ فِعْلُ الْإِتْلَافِ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا بِالْعَقْدِ يَثْبُتُ لِلْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْإِحْرَازِ، وَالتَّقَوُّمُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْعُدْوَانِ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً، وَبِاعْتِبَارِهَا يَنْعَدِمُ التَّقَوُّمُ وَالْإِتْلَافُ، وَفِي الصَّدَاقِ وَاسْتِئْجَارِ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ التَّمَوُّلِ وَالْإِحْرَازِ، وَكَمَا تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِتَفَاوُتِ الْمَنْفَعَةِ تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الطِّيبِ بِتَفَاوُتِ الرَّائِحَةِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَهُوَ دُونَ الْأَعْيَانِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَا يُضْمَنُ بِالنِّسْبَةِ، وَالدَّيْنُ لَا يُضْمَنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute