قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» وَمَا رُوِيَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْقِمَارُ مُبَاحًا ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَلِلْقَاضِي هُنَا وِلَايَةُ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ.
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي وَلَدٍ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِأَنَّهُ ابْنَيْهِمَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلَا الْقُرْعَةَ فِيهِ وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَالْيَمِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَلَّ أَنَّهُ عَرَفَ انْتِسَاخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُدَّعِي قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بِقَدْرِ حَقِّ أَحَدِهِمَا وَالْمُوصَى لَهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ مِلْكُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَيْفَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ الْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ضَعِيفٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا أَطْلَقَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الْيَدِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَقَدْ تَتَوَالَى يَدَانِ لِشَخْصَيْنِ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتَيْنِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ هُنَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا سَنَةً وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ فَقَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ تَنْصِيصَ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّوْقِيتِ لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَعَلَّ مِلْكَ الْآخَرِ أَسْبَقُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ خَارِجَيْنِ إذَا وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ وَتَنْصِيصُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ لَا يُبْقِي مُسَاوَاةَ الْآخَرِ أَوْ سَفَهًا عَلَيْهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ قِيَامُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَاَلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ أَرَّخَ شُهُودُهُ وَلَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute