بِإِزَاءِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ كَمَا يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ مُتَبَرِّعٍ آخَرَ ثُمَّ هُوَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا فَأَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِمَالٍ يَشْتَرِطُهُ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ الْبَرَاءَةِ؛ فَلَا يَجِبُ ذَلِكَ الْمَالُ وَلَوْ أَدَّاهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَلَا تَئُولُ إلَى الْمَالِ بِحَالٍ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ حَتَّى لَا يُوصَفَ بِأَنَّهُ مُلْكُهُ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ مِثْلِهِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْعَتَاقِ بِجَعْلٍ وَالطَّلَاقِ بِجَعْلٍ فَإِنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مُلْكٍ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ مُلْكَ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمَالِ فَيَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ إزَالَتِهِ بِالْمَالِ أَيْضًا، بِخِلَافِ حَقِّ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بِمَالٍ قَطُّ حَتَّى لَوْ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لِيَكْفُلَ بِهِ بِنَفْسِ فُلَانٍ لَا يَصِحَّ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِبْرَاءِ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَفِي حُصُولِ الْبَرَاءَةِ رِوَايَتَانِ: فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَبْرَأُ وَجُعِلَ هَذَا كَحَقِّ الشُّفْعَةِ إذَا سَلَّمَهُ بِمَالٍ يَصِحُّ التَّسْلِيمُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ بِمُقَابَلَتِهِ فَاسِدٌ وَلَكِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يُبْطَلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ مُبْطِلًا لَهُ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَقُولُ: لَا يَبْرَأُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ حَقٌّ قَوِيٌّ لَا يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ إلَّا بِإِسْقَاطٍ تَامٍّ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِالسُّكُوتِ وَإِنَّمَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِسُقُوطِهِ إذَا وَجَبَ لَهُ الْمَالُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ؛ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فَأَمَّا سُقُوطُ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ يَعْتَمِدُ الْإِسْقَاطَ وَتَمَامَ الرِّضَا بِهِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالسُّكُوتِ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ يَسْقُطُ.
وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَكُنْ لِعَقْدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ مَخْصُوصٍ عَنْهُ وَهُوَ ضَرَرُ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِهَذَا الضَّرَرِ، وَإِنْ سَلَّمَهُ بِمَالٍ فَأَمَّا وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِالْكَفَالَةِ فَكَانَ بِقَبُولِهِ الْعَقْدَ فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطٍ يَكُونُ مِنْهُ وَهُوَ إذَا أَسْقَطَهُ بِمَالٍ فَإِنَّمَا يُحَوَّلُ حَقُّهُ إلَى الْمَالِ فَلَا يَسْقُطُ أَصْلًا وَهَذَا التَّحْوِيلُ لَمْ يَصِحَّ؛ فَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ عَلَى حَالِهَا وَلَوْ قَضَاهُ الْمَالَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَبَضَهُ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ. وَالْمُبَادَلَةُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَصِحُّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمَالِ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ لِقَضَائِهِ بِعِوَضٍ وَهُنَا نَصَّ عَلَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ حَتَّى شَرَطَ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ مُلْتَزِمٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ يَجِبُ الْمَالُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لِيَرْجِعَ بِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَ هُنَاكَ الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ لَرَجَعَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute