للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَخُذُوهُ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهِ مَنَافِعُ فَأَخَذُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ فَضْلًا قَلِيلًا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى حَذَاقَتِهِ فِي بَابِ الْخَرْصِ، وَأَنَّ خَرْصَهُ بِمَنْزِلَةِ كَيْلِ غَيْرِهِ حِينَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ الْفَضْلُ الْيَسِيرُ، وَإِنَّمَا تَجَوَّزَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَمَرَهُ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْخَرْصِ، وَلَمْ يَتْرُكْ النَّصِيحَةَ لَهُمْ فِي الْأَخْذِ مَعَ شِدَّةِ بُغْضِهِ إيَّاهُمْ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتْرُكَ النَّصِيحَةَ لِأَحَدٍ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ عَدُوٍّ إذَا كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نَصِيحَتَهُ بِحَقِّ الدَّيْنِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ وَقَالَ: لَكُمْ السَّوَاقِطُ» قِيلَ الْمُرَادُ مِنْ السَّوَاقِطِ مَا يُكْسَرُ مِنْ الْأَغْصَانِ مِنْ النَّخِيلِ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحَطَبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ مَا سَقَطَ مِنْ الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُمْكِنْ ادِّخَارُهُ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ فَشُرِطَ ذَلِكَ لَهُمْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُجْعَلُ عَفْوًا فِي حَقِّ الْمُزَارِعِ وَالْمُعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى التَّحَرُّزُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ مِائَةَ وَسْقٍ فَقَالَتْ الْيَهُودُ: أَشْطَطْتُمْ عَلَيْنَا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَحْنُ نَأْخُذُهُ وَنُعْطِيكُمْ خَمْسِينَ وَسْقًا فَقَالَتْ: بِهَذَا تُنْصَرُونَ وَقَوْلُهُ: أَشْطَطْتُمْ عَلَيْنَا أَيْ: ظَلَمْتُمُونَا وَزِدْتُمْ فِي الْخَرْصِ»، وَالشَّطَطُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ»، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَذِبًا وَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَكِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ الْكَذِبُ، وَقَوْلُ الزُّورِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: ١٤] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ تَعَنُّتَهُمْ بِمَا قَالَ: إنَّا نَأْخُذُهُ وَنُعْطِيكُمْ خَمْسِينَ وَسْقًا فَقَالُوا بِهَذَا تُنْصَرُونَ أَيْ: بِالْعَدْلِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الظُّلْمِ، فَالنَّصْرُ مَوْعُودٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَادِلِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: ٧] يَعْنِي إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ تَعَالَى بِالِانْقِيَادِ لِلْحَقِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ وَإِظْهَارِ الْعَدْلِ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " لَا بَأْسَ بِالْمُزَارَعَةِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ "

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ فِي جَوَازِهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَكَانَ الْخِلَافُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالتَّابِعِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَهُمْ وَاشْتَبَهَتْ فِيهَا الْآثَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَمَعَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا نُقِلَ مِنْ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ بَيَانَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى فَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْيَمَنَ وَنَحْنُ نُعْطِي أَرَاضِيَنَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْنَا، وَفِيهِ بَيَانٌ: أَنَّ تَرْكَ التَّكَثُّرِ مِمَّنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ

<<  <  ج: ص:  >  >>