فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التَّخَلُّلِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا، وَفِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ إذَا دَبَغَهُ الْغَاصِبُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ. .
وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْمَجُوسِ، وَأَهْلِ الشِّرْكِ مَا خَلَا الذَّبَائِحِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَأْكُلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ طَعَامِهِمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ بَعْضِهِمْ تَأْلِيفًا لَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا بَأْسَ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: ٥]، وَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ فِي أَوَانِي الْمَجُوسِ، وَلَكِنْ غَسْلُهَا أَحَبُّ إلَيَّ، وَأَنْظَفُ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ طَبْخِ الْمَرَقَةِ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اغْسِلُوهَا، ثُمَّ اُطْبُخُوا فِيهَا»؛ وَلِأَنَّ الْآنِيَةَ تُتَّخَذُ مِمَّا هُوَ طَاهِرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الطَّهَارَةُ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهَا لِذَلِكَ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ فِي سَرَاوِيلِ الْمَجُوسِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَلَا بَأْسَ بِالْجُبْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صَنْعَةِ الْمَجُوسِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَاهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ بِسَلَّةٍ فِيهَا جُبْنٌ، وَخُبْزٌ، وَسِكِّينٌ، فَجَعَلَ يُقَطِّعُ مِنْ ذَلِكَ الْجُبْنِ لِأَصْحَابِهِ، فَيَأْكُلُونَهُ، وَيُخْبِرُهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُ الْجُبْنَ؛ وَلِأَنَّ الْجُبْنَ بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَلَا بَأْسَ بِمَا يَجْلِبُهُ الْمَجُوسُ مِنْ اللَّبَنِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ إذَا كَانَ الْمُبَاشِرُ لَهُ مَجُوسِيًّا، أَوْ مُشْرِكًا، وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِتَنَاوُلِ اللَّبَنِ، وَالْجُبْنِ، فَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ بِخِلَافِ الذَّبَائِحِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذَّكَاةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِيمَا فِيهِ الْحَيَاةُ، وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ. .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الشَّاةُ إذَا مَاتَتْ، وَفِي ضِرْعِهَا لَبَنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَتَنَجَّسُ اللَّبَنُ بِمَوْتِهَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَتَنَجَّسُ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَهُ حَيَاةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ يَتَنَجَّسُ بِتَنَجُّسِ الْوِعَاءِ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ صُبَّ فِي قَصْعَةٍ نَجِسَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لَوْ كَانَ اللَّبَنُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لَتَنَجَّسَ بِالْحَلْبِ أَيْضًا، فَإِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ مَيِّتٌ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُحْلَبَ اللَّبَنُ، فَيُشْرِبَ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ، فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بِنَجَاسَةِ وِعَائِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْدِنِهِ، وَلَا يُعْطَى الشَّيْءُ فِي مَعْدِنِهِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ فِي الْأَصْلَ، اللَّبَنُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: ٦٦]، وَعَلَى هَذَا إنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَاهِرَةٌ مَائِعَةً كَانَتْ، أَوْ جَامِدَةً بِمَنْزِلَةِ اللَّبَنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ نَجِسَةُ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كَانَتْ مَائِعَةً، فَهِيَ نَجِسَةٌ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ كَاللَّبَنِ، وَإِنْ كَانَتْ جَامِدَةً، فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ لَا يَتَنَجَّسُ بَاطِنُهَا، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهَا يَزُولُ بِالْغَسْلِ، وَأَشَارَ لِأَبِي حَنِيفَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute