يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَلَا يُسَمِّيَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ وَارِثٍ فَيُضَمِّنَهُ مَا سَمَّى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْوَرَثَةِ، وَإِذَا كَتَبَ بَرَاءَتَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ أَنْ يُضَمِّنُوهُ شَيْئًا فَهَذَا أَوْثَقُ لَلْوَصِيِّ وَلَكِنَّ الْأَوْثَقَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يُخْفِي الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ، فَإِذَا كَتَبُوا لَهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا سَمَّوْا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا فِيمَا يَظْهَرُ فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذُكِرَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَأْمُرْهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ: هَذَا مَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبِهِ نَأْخُذُ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا، وَالنِّكَاحُ سُنَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ارْتِفَاعَ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُمَا لِيَمْنَعَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَيُوصِلَهُمَا إلَى مُرَادِهِمَا بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَتَكُونَ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَادِمٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ خُصُوصًا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَلَوْ امْتَنَعَ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ رُبَمَا يَحْمِلُهَا النَّدَمُ أَوْ فَرْطُ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ فَهُوَ يَسْعَى إلَى إتْمَامِ مُرَادِهِمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْدُبَانِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِيهِ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لَهُ: تَزَوَّجْنِي فَحَلِّلْنِي أَوْ قَالَ لَهُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ: تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَحَلِّلْهَا لِي أَوْ قَالَ الثَّانِي لِلْمَرْأَةِ: أَتَزَوَّجُكِ فَأُحَلِّلُكِ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُحَلِّلُهَا لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ لِلنِّكَاحِ وَالتَّوْقِيتُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - النِّكَاحُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ وَلَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute