وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرُهُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ مَأْمُورُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ شَرْعًا فَيَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْتُمْ فِي الْأَبِ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتَهُ يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ عُلَمَائِنَا قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: ٣] أَيْ فِي نِكَاحِ الْيَتَامَى فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: ١٢٧] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شُرَطَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَتَوْهُ بِشَيْخٍ مَعَ جَارِيَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ قِصَّتِهَا فَقَالَ: إنَّهَا ابْنَةُ عَمِّي، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ تَرْغَبُ عَنِّي فَتَزَوَّجْتُهَا فَقَالَ: خُذْ بِيَدِ امْرَأَتِك، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَاقِدَ فِي بَابِ النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ، وَالْوَاحِدُ كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الزَّوْجَيْنِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ لَا مُعَبِّرًا.
تَوْضِيحُهُ: أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي بَابِ الْبَيْعِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَإِذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُطَالِبًا مُطَالَبًا مُسَلِّمًا مُسْتَلِمًا مُخَاصِمًا مُخَاصَمًا، وَفِي بَابِ النِّكَاحِ لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْعَاقِدِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: بِبَيْعِ الْأَبِ مَالَ وَلَدِهِ مِنْ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الصَّغِيرِ يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ حُقُوقَ الْعَقْدِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا بَلَغَ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ دُونَ الْأَبِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَإِذَا تَوَلَّاهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُسْتَزِيدًا مُسْتَنْقِصًا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى هَذَا الْمَعْنَى إذَا بَاشَرَهُ الْوَاحِدُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَعَلَى هَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابَةِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُبَاشِرُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْكِتَابَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعْتَبَرٌ كَمَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ هَذَا النِّكَاحَ قَدْ حَضَرَهُ أَرْبَعَةٌ مَعْنًى فَإِنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ وَصْفَانِ فِي وَاحِدٍ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُثَنَّى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِاعْتِبَارِ كُلِّ صِفَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ إذَا كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَفُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا، وَلَا وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَلَكِنَّهُ فُضُولِيٌّ بَاشَرَ النِّكَاحَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ فَبَلَغَ الزَّوْجَيْنِ فَأَجَازَاهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ.
وَجَازَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute