تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا، وَلَوْ كَانَ تَزْوِيجُهُمَا فِي عَقْدَيْنِ جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَخْتَارُ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَيُفَارِقُ الْأُخْرَى، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانُ نِسْوَةٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَقَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزِ الدَّيْلَمِيُّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت»، وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ هَذِهِ حُرْمَةٌ اعْتَرَضَتْ فِي بَعْضِ الْمَنْكُوحَاتِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَتُوجِبُ التَّخْيِيرَ دُونَ التَّفَرُّقِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَنْكِحَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ بَانَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ جَازَ نِكَاحُهُنَّ سَوَاءٌ مَاتَتْ الْأُولَى أَوْ الْأَخِيرَةُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَنْكِحَةَ صَحِيحَةٌ كَانَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ، وَالْعُقُودُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَسُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ، وَالْعُقُودَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِيهِ سَوَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَفْنَا فِي التَّفْرِيقِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ الْجَوَابُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ بِحُكْمِ الشُّيُوعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ثَبَاتًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مِنْ أَصْلِهَا وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: ٢٣] فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا حَرَامٌ بِهَذَا النَّصِّ، وَبِنِكَاحِ الْأُولَى مَا حَصَلَ الْجَمْعُ فَوَقَعَ نِكَاحُهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ الْجَمْعُ فَلَمْ يَكُنْ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ إذْ لَا سَبَبَ هُنَا سِوَى الْجَمْعِ فَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ فِي نِكَاحِ مَنْ حَصَلَ الْجَمْعُ بِنِكَاحِهَا، وَكَانَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِنِكَاحِهَا الْجَمْعُ، وَكَانَ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ إبْطَالُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّةِ تَحْتَ رَجُلَيْنِ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَا مَعَهَا، وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْخَمْسِ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute