عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً فَقَالَ: مَالِي حَاجَةٌ إلَى النِّسَاءِ فَقَالَتْ: زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْت فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: زَوِّجْهَا مِنِّي فَقَالَ: مَاذَا تُصْدِقُهَا؟ فَقَالَ: إزَارِي هَذِهِ فَقَالَ: إذًا قَعَدْتَ، وَلَا إزَارَ لَك الْتَمِسْ، وَلَوْ بِفَلْسٍ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: لَا أَجِدُ فَقَالَ: هَلْ تُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا فَقَالَ: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا عِنْدَك مِنْ الْقُرْآنِ» فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الشَّرْطُ هُوَ الْمَالُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: ٢٤] فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ الْمَالِ بِالْعَشَرَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا لَا يُزَوِّجْ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ»، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
وَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدٍ لَمْ يُجْعَلْ إيجَابُ أَصْلِهِ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا كَالدِّيَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا إلَّا مُوجِبًا لِلْعِوَضِ إمَّا فِي الْحَالِ، أَوْ فِي الثَّانِي عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِيهِ شَرْعًا؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَصْلِ الْمَالِيَّةِ فَاسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْخَطِيرَ، وَالْحَقِيرَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إظْهَارُ الْخَطَرِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: ٥٠]، وَالْبُضْعُ مِنْ وَجْهٍ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ حُكْمُ الْفِعْلِ فِيهِ بِالْبَدَلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ؛ لِإِعْلَاقِ النَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مِلْكٍ يَضِيعُ؛ لِانْعِدَامِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخَطَرُ هُنَا فِي مَعْنَى الْخَطَرِ فِي النُّفُوسِ، وَالْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْ النُّفُوسِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَهُوَ الدِّيَةُ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَوَلَّى بَيَانَ مِقْدَارِهِ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، فَكَذَا الصَّدَاقُ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: ٥٠] الْآيَةَ مَعْنَاهُ مَا قَدَّرْنَا فَإِنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَعَلَى هَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِهِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْبَدَلِ فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ.
وَتَأْوِيلُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيمَا يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالِالْتِمَاسِ، وَالصَّدَاقُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الذِّمَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا عِنْدَنَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَلَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute