للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كُتُبِي ومجلسي، وكان أبي بكُتُبِه في الإيوان، وتحدَّثنا مَلِيًّا، ثم تذاكرنا مسائل، وتواعدنا للاجتماع عَشِيَّةً على ما جرى من العلم، ثم قام فشيَّعته إلى باب الدار، ثم عُدْتُ إلى موضعي، وخَلَعْتُ ثيابي لأمشي إلى أبي وأُعْلِمَه بما جرى، وجَمَعْتُ الكُتُبَ التي كنَّا فرَّقناها للنظر في الأحاديث التي تذاكرناها، فإذا بجُزْءً منها مضطرب الهيئة؛ فَفَتَحْتُه، فإذا فيه (١) صُرَّةٌ مشدودة، فحللتها فإذا فيها ثلاثون دينارًا، فقبضتُ عليها وجئت أبي، فقال لي: أبطأتَ، ومضى النهار وفات النظر، فقلتُ: إنَّما أبطأتُ عليك لأنه كان يوم تجارة، قال لي: وكيف؟ قلتُ: أخذتُ الثلاثة الأرباع (٢) الدينار وتَجَرْتُ بها إلى الآن، فلمَّا خَلَصَتْ (٣) إليَّ ثلاثين دينارًا جِئْتُكَ بها، ورميتُ بالدنانير بين يديه، فلمَّا رآها خَجِلَ، قال: ما هذا من تجارة؟ قلت: إي والله منها، مِن عند (٤) غَنِيٍّ وَفِيٍّ، قال: بالله، قُلِ الأَمْرَ على وجهه، فبَقَرْتُ له الحديث؛ فعَجِبَ منه، وحَمِدَ الله عليه.

فهذه كلها وجوه من الكَرَم؛ أوَّلها المواساة، وآخِرُها الإيثار، وأوَّلها إعطاء الحبة، وآخرها إعطاء المال، بل إعطاء النفس:

فالجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ (٥)


(١) سقط من (د).
(٢) في (ص): أرباع.
(٣) في (ص): حصلت.
(٤) في (ك) و (ص) و (ب): مع، ومرَّضها في (د)، والمُثبت من طرقه.
(٥) عجز بيت، وهو للوليد بن مسلم، من البسيط، وهو في ديوانه: (ص ١٦٤)، من قصيدة مطولة بمدح فيها داود بن يزيد، وصدره:
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها