للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بحال؛ وذلك أن الخاطر الذي يُوقعه في المعصية مع علمه بأنها مَهْلَكَةٌ بمنزلة الرجل يُقْدِمُ على وَطْءِ الأجنبية وإن قُتِلَ، كأنه يرضى بالوصول إلى أَمَلِه وإن أدَّى إلى تَلَفِ نفسه، وهذا لأنه عذابُ لحظة، فيمكن أن يُقَابَلَ بلذة لحظة، كأنه مقابلة مِثْلٍ بمِثْلٍ؛ في القَدْرِ والزمان، لا في الصفة والمقدار.

وأمَّا المؤمنون بالحقيقة فمثالُ المعصية إذا عَرَضَتْ لهم كرَجُلٍ قُدِّمَ له طعامٌ شَهِيٍّ تَحَقَّقَ أنه مسمومٌ، وأنه وَحِيٌّ (١) لا يُمْهِلُه؛ فإنه لا يُقْدِمُ عليه، فإن أَخَذَه الجُوعُ وغَلَبَه لم يُقْدِمْ أيضًا عليه؛ لأنه يقول: مَوْتٌ بمَوْتٍ من غير يَدِي أولى بي، ولو تحقَّق أنه سُمٌّ يُدِيمُ أَلَمَه، ويُهْرِي لَحْمَه، ويَشُدُّ وَجَعَه؛ ربَّما يَحْمِلُه سوءُ الاختيار على أن يُؤْثِرَ حياةَ شَهْرٍ مُتَمَلْمِلًا مُتَوَجِّعًا مُتْبَلًا (٢) على الموت الآن، وذلك لمَغِيبِ الألم عنه الآن، وأن الجوع متحقق، والألم متوقع، وإذا عرف أنها شهوة مُسْتَغْنًى عنها، وعلم أنها مُوقِعَةٌ في العذاب الدائم؛ لم يُقْدِمْ عليها بحال إلَّا مع الاِسْتِرَابَةِ بأن ذلك الطعام مهْلِكٌ، والشكِّ في أن ذلك الفعل مُعْطِبٌ، أو مع الذهول عن هذه الخواطر كُلِّها بغلبة الشهوة، وإلى هذه الأحوال كلها يَرْجِعُ قول النبي : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذات شرف يَرْفَعٌ الناسُ إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن" (٣)،


(١) في (ز): الردى.
(٢) في (ص) و (د): مُبتَلًى.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة : كتاب المظالم، باب النُّهبى بغير إذن صاحبه، رقم: (٢٤٧٥ - طوق).