مخض «١» ، باقي طراز الحسب المذهّب، والنسب الذي يرغب إليه ويرهب. لم تنس أيامه الأول ولا إقدامه أمام الدول، هذا القديم عليا، وعميم سابقه لا يدرك بالأعيا. نشرت أيامها أجنحة نورها، وحدّقت على الليالي وراء سورها، وبرّزت عقايل شموسها تتبرج في لجبها، وتوشّع «٢» حلل النهار بذهبها، والزمان كلّه نوائب ويشرق، والضحى لجنبه جامد وذوائب، فبلغ من المجد قصاراه، ونال جلّ ما سمعه ورواه.
قال ابن خلكان: كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغة والنوادر والغريب وكان يقوّي رأي القدر، وكان ثقة في روايته.
قال المازني: رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد فقبّل رأسه، وجلس بين يديه، وقال: أنت سيّدنا ورئيسنا منذ خمسين سنة.
وقال أبو زيد: حدّثني خلف الأحمر، قال: أتيت الكوفة، لأكتب عنهم الشعر، فبخلوا عليّ به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح، ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم أنا تائب إلى الله هذا الشعر لي، فلم يقبلوا منّي، فبقي منسوبا إلى العرب. وحكى بعضهم أنه كان في حلقة شعبة بن الحجاج فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس فقال: يا أبا زيد: [البسيط]
استعجمت دارميّ ما تكلّمنا ... والدار لو كلّمتنا ذات أخبار
إليّ يا أبا زيد، فجاءه فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال له بعض أصحاب الحديث: يا أبا سطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضبا شديدا، ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح لي، أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذاك، وقارب المئة، ومات بالبصرة سنة خمس عشرة، وقيل أربع عشرة، وقيل ست عشرة ومئتين «٣» .