للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحكى لي أن أباه القاضي شرف الدين كان كثيرا ما يقول: يا ليت شعري ما في الأموات عاقل يرجع إلينا ويخبرنا بما جرى لهم. فلما مات جلسنا يوما على قبره، فذكرنا ما كان يقول، فقال رجل من أصحابه كان حاضرا عندنا:

يا قاضي شرف الدين، أنت رجل عاقل وقد صرت من الأموات، فهلا رجعت وخبّرتنا بما جرى لكم؟ وإذا برجلين مارّين على خيل لم يسمعوا كلامنا ولا يعرفهم منّا أحد، وإذا أحدهما يقول للآخر: تريد الصحيح، سلّم إلى الأنبياء تستريح. فقال: هذا والله الجواب، وهذا أيضا من عجائب الاتفاق، وهو من أول شيوخي الذين عليهم قرأت، ومنهم استمرأت، قرأت عليه النحو. ثم كان جلّ استفادتي على قاضي القضاة ابن مسلم رحمهما الله تعالى.

ومنهم:

٥٢- الضياء العجمي

ذو جدّ. عدم الانبساط وعدل على الأقساط، فعكف عليه وعرف ما لديه. ترقّت أسارير مزنته، وصدقت تباشير منّته. فأعاد العلم إلى أحسن حاله، وجاد يخضّب أمحاله. وكان يأبى على الاستعجال بما يعجز على طول المجال؛ فلا يجسر أحد على بحره، ولا يسعه إلى الاستسلام لسحره؛ ولهذا كانت الطلبة تبتدر فوائده بدار الطير إلى طلب أقواتها، وتؤدي إليه الفرائض في أوقاتها. فكان الطالب لا يزال مغترفا من نهره، ولا يغتر بغيره متاعا من دهره؛ إلا أنه عرض له هوى جذبه بأطواقه، وسلبه إلا من أشواقه، إلى بعض أبناء الأمراء بدمشق، فطار هواه بلبّه، وأذكى جواه بقلبه. وكان الصبّي يعرف بابن دمرداش. وكان يعيّر الغزال إذا التفت، ويغيّر الهلال محاسنه إذا اختفت. وكان على هذا الحسن ذا كيس ينتهب الأحشاء ويحدث الانتشاء فآل به حاله في عشقه وتملّكه له، حتى يئس من عتقه إلا أنه سلب عقله، وأهمل غفله، وسافر إلى مصر سفرا ساقه لحينه، وسباه بطول بينه. وكان قد تمّ

<<  <  ج: ص:  >  >>