مداوي قلوب من أشجان، وسرّ أبوين يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. كان جدى للنساك، وهدى للسلّاك، وقطبا للأبدال، وحربا لمن أكثر في الحق الجدال، بكلام يدلّ على وصول، وبلوغ قصد وحصول، وطبّقت بلاد أفريقية سمعته، ووسع فرق أهلها رحب صدره وسعته، ثم عمّ الشرق والغرب، وملك حبة القلوب بالطلوع والضب، ولم يزل ذكره بالأفواه منتهبا، وفجره في رداء الشفق ملتهبا، وصيته يطير متهما ومنجدا، وإذا سمعه الذين يخشون الرحمن خرّوا بكيّا وسجّدا، حتى حان حينه، وانتهى إلى القبر نينه، فارتقت إلى السماء روحه، وأشرقت في مطالع الشموس نوحه.
وكانت الوزراء بمصر تستدعيه إلى حضرتها، وهو من مكانه لا يريم، ولا يزال يحافظ على أوطانه محافظة كريم.
قرأ القرآن الكريم، وتفقّه على مذهب الإمام مالك- رضي الله عنه- ولقي العلماء، وأخذ عن المشايخ، وصحب الرجال، وأحبّ الزهّاد، واقتدى بالعبّاد، واعتكف بالمساجد، وتأدب بالكتاب والسنة، ولازم العبادة، وتقرّب إلى الله تعالى بالنوافل، وتخير لمكسبه، وتوفي في سببه، وتورّع عن كثير من الحلال خوف الشبهات، ونزه عن دنايا الدنيا وظهرت عليه أمائر القبول «١» ، ولوائح القرب، ودام على الاجتهاد، وقام قيام الزهّاد، وبقي يذكر الله تعالى ويحض على التوجه إليه، والإقبال على ما يزلف عنده.
حكي أن رجلا قصد زيارته، فلما كان ببعض الطرق، نزل عن حماره لحاجة عرضت له، فشرد الحمار، فقام في طلبه، فلم يجده، فرجع، وتم ماشيا، حتى أتى الشيخ، فسلّم عليه، وجلس ناحية منه، فالتفت الشيخ إليه، وقال له: طب نفسا، فإن حمارك وصل إلى أهلك.
فلما عاد الرجل إلى أهله وجد الحمار، فسأل: من أين وصل إليهم؟. فقالوا: إن رجلا أتى به السوق ليبيعه، فعرفه بعض بني عمك، فأخذه، وحمله إلى والي البلد، فسأله عن الحمار؟