بحر لا يلجه إلا معذر، وأسد لا يخرجه إلا متضرر، شرب بقية الزجاجة، وطرب فوق قدر الحاجة، فانقلب سكرانا طافحا، وغلب عليه فمال طامحا، وكان ممن كتب الكتب وقراها، وبرأ الكتب ودراها، فكان يجني ثمر الغيوب، ويجري تارة مجرى المحاسن، وتارة مجرى العيوب، فلا يزال يأتي بالحكمة الصائبة، ويحدّث بالكلمة الغائبة، بكشف لا يحجب، ولا يأتي بنادرة فيتعجب، لكثرة ما كان يأتي به شيئا بعد شيء، ويمد من تخييلاتها فيا بعد في، فكان لو شاء أنه أو همّ شق البحر فخاض منه طريقا يبسا، وشهب الماء فأوقد منه شهابا قبسا، وأومأ إلى الغوادي فأجابت سماؤها، وإلى الليالي فانجابت ظلماؤها، فخلب العقول أو سحرها، وخيّل أوقات الظهيرة عشيات الليالي أو سحرها، حتى أضلّ جبلا، وأضاع جملا، وأصبح مثلا، وأمسى وأمثال عقد النجوم عليه منتثلا، وكاد العراق يميد لساكنه، ويميل بمساكنه، حتى كادت بغداد تخرج في ذمامها، ويخرج من يد أيامها، والناس عليه مؤتلفون، وفيه مختلفون، وهم به لا يقصرون، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ
«١» ثم قتل بسيف الشرع، وسقي بسيل دمه منابت الزرع، فقرّ الدرّ في الضرع، واستقرّ في ثاره الأصل والفرع، هذا بعد أن صبّ عليه سوط عذاب، وقتل والناس قسمان:
قسم مدح، وقسم عاب، إلا أنه حكي أنه لم يحضر واقعته إلا من أصيب، وأخذ من البلوى نصيب.