وترقّى حتى جلس في الدست «١» لقراءة القصص، والتوقيع عليها. ولمّا قدم السلطان محمود غازان دمشق، كان فيمن كتب له وكتب التقاليد لقبجاق وبكتمر السلحدار، والفارس البكي. وكان قادرا على كثرة الكتابة مطيقا لها مع اطلاع كثير على فنون عدّة. وألّف في اللغة كتابا جليلا أظنّه سمّاه نهاية الأدب في لغة العرب «٢» ، جمع فيها مشاهير كتب اللغة الجليلة ورتّبه ترتيب الجوهري لكتاب الصحاح، وكتب عليه شيخنا أبو الثناء محمود الحلبي وأبو حيّان تقريض الكتاب وشكره، ووقفت على أجزاء منه على كل منها تقريض خاص، منه قول شيخنا أبي الثناء: وكان ابن المكرم مغرى باختصار الكتب المطولة، فممّا اختصر، تاريخ الحافظ أبي بكر الخطيب، والذيل عليه لابن النجار، وتاريخ الحافظ أبي القسم ابن عساكر، والجامع في المفردات لابن البيطار، ورأيت أطباء ديار مصر الأجلاء كالسديد الدمياطي وفرج الله بن صغير، وغيرهما يثنون على حسن اختياره، ويقولون: إنه مع اختصاره لم يخلّ فيه مقصد من مقاصده، ولا ترك موضعا لم يأت عليه من فوائده إلى غير هذا مما كتب وآونة احتطب. وكان على هذا كله مقصّرا في صناعة الإنشاء غير محصد الرشاء على أنه كان يأتي بالأبيات من الشعر؛ وإن لم يكن ممّا يبهر حسنها، ولا يسرف فنّها.
وكلّها من باب المقبول أو ما يدانيه، ويقال: إنّه كتب بخطّه خمسمئة، وكان كلّما يكتب على طريقة واحدة بقلم دقيق كتابة مغلقة التعليق لا يكاد يبين. ولم يزل يكتب ويسهر الليل في الكتابة، حتى كان يقضي الليالي الطوال كلها سهرا لا يلمّ فيها بكرى، ولا يطعم جفونه فيها بهجعة، وكان يتخذ إلى جانبه إناء فيه ماء، فإذا غلبه السهر وكاد يصرعه الكرى، أخذ من الماء فسكب في عينيه فعمي وعدم نور بصره، وجلس في مجلس العمى في آخر عمره، وكان مع هذا رجلا مغرما بالنساء مغرى بالنكاح، لا يكاد تربط له تكّة، ولا يقبضه عنه مسكة إلى ولع كما يقال بالخمر عفا الله عنه لا يترك كؤوسها عن مطي