وسارت إليه الطلبة يستعجل الشوق حنانها، وتصل الأسباب ربّانها إلى رأي رصين، وعلم بالدين قد صين. فلم يكن مثله في العليا، وزهد خلص من الربا. فسار ذكره كالشمس مغذّا، ووجد له كالسحر إلى كل قلب نفذا.
قال ابن خلكان: كان إماما في علم النحو كثير الاطلاع على دقائقه وغريبه وشاذّه.
وصنّف فيه المقدمة التي سمّاها القانون. ولقد أتى فيها بالعجائب، وهي في غاية الإيجاز مع الاشتمال على شيء كثير من النحو، ولم يسبق إلى مثلها. واعتبرها جماعة من الفضلاء فشرحوها. ومنهم من وضع لها أمثلة. ومع هذا كلّه فلا تفهم حقيقتها. وأكثر النحاة ممن لم يكن أخذها عن موقّف يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلّها رموز وإشارات.
ولقد سمعت من بعض أئمة العربية المشار إليهم في وقته، وهو يقول: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كوني ما أعرفها ألّا أعرف النحو. وبالجملة فإنّه أبدع فيها.
قال: وسمعت أن له أمالي في النحو ولكنّها لم تشتهر. ورأيت له مختصر التفسير لابن جنّي في شبه ديوان المتنبي. ونقل أنه كان يدري شيئا من المنطق. ودخل الديار المصرية، وقرأ على الشيخ محمد بن بري المتقدم ذكره. وقد نقل «الجمل»«١» على ابن برّي، وسأله عن مسائل في أبواب الكتاب، فأجابه ابن برّي عنها، وجرى فيها بحث من الطلبة حصلت منه فوائد علّقها الجزولي مفردة فجاءت كالمقدمة، فيها كلام غامض، وعقود لطيفة وإشارات إلى أصول صناعة النحو غريبة، فنقلها الناس عنه واستفادوها منه، ثم قالوا هذا المصنف.
وبلغني أنه كان إذا سئل عنها، هل هي من تصنيفك؟ قال: لا؛ لانه كان متورعا: ولمّا كانت من نتائج خواطر الجماعة عند البحث من كلام شيخه ابن بري، لم يسعه أن يقول:
هي من تصنيفي؛ وإن كانت منسوبة إليه؛ لأنه الذي انعزل بترتيبها.
ثم رجع الجزولي إلى بلاد المغرب بعد أن حجّ وأقام بمدينة بجاية مدة، والناس يشتغلون