للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن كنت مختبرا فاعنت وقل أبدا ... ما شئته لتراني لست أعتاز

ومن عديّ بن كعب أسرتي ولنا ... ببطن مكة في البطحاء أركاز

والآن أرسلت ما أرسلت تطلبه ... منطّق الخرس قول الحق أرماز

نجزت وعدك لّما قلت منتدبا ... ما إن للكرم الموعود إنجاز

فأخذ قاصده الجواب، ومعه منطّق الحزس، خلا ما أخرته؛ قصدا للمطايبة وحبّا لدوام المطالبة، ثم ذهب هذا وعمر اليوم قد تصرّم، ولهب الأصيل قد تضرّم، والنهار سائل لجينه على المغرب قد تكرم. والطير قد أكثر الصياح كأنه لفراقه قد تبرّم. وقطعت سواد تلك الليلة مفكرا في الشيخ ونشاطه وخفة روحه وانبساطه. ولا أظن أنه يزورني في صبيحة غد؛ ليتم ما يصنعه في الغضب، ولا يظهر أن زاخره الهائج نضب. فما كان إلّا أن شقّ النور ثوب الظلماء، وبدّل بياقوت الشفق لؤلؤ سماء، ووقت الفجر ما ضاق، وجدول الصباح قد شرع بتموج نهره الرقّاق؛ وإذا بالباب يطرق وحسّ حمار ينهق. فأمرت من حضر بفتح الباب للطارق، وزجر شيطان ذلك الحمار الناهق وقلنا: ألا طارق يطرق بخير، وراكب حمار لا يخاف منه ضير، وإذا بالشيخ قد دخل، وسلّم، وسكت وإلّا كان تكلّم. فلم أر ساعة أسرّ من حين مقدمه، ولا خفا كان وفيه أكثر من تقبيل قدمه، وما كان إلّا أن حضر يطوي ما كان في أمس وطلع علينا هو والشمس. وطلّنا في يوم لا عيب فيه غير قصر، وسرور لا شيء فيه إلا فرط نداه في يد مهتصر «١» . واستشدى موشحات كبت نظمها وبلغته، ولم يقف عليها ولا سوغته. فأبرزت له ما ظنّ أنه من الأندلس وزفّ من الغرب فاق العرس، فقال فيها ما هو أهله من الجميل، وما عهدت من جنابه الجزيل. ثم أخذ يسألني عن الشخص الذي أشرت إليه في القصيدة فوفيت بما ضمنت من كتمانه وبحثه عن طريقه؛ فظنّ أنّ الفاضل شمس الدين محمد ابن الصائغ الزمردي هو ذلك الشخص. وكان لا يراه إلّا بعين النقص فلما اشتدّ هذا عنده وتصوّره، ورجع بباطنه فيه إلى آرائه المنكره، فبعث إليّ بقصيدة يذكّر فيها، ويذكر الإمام أبا عبد الله ابن الصائغ الأموي ذكرى متوافية، ولم يك للأول كنت ولا للثاني،

<<  <  ج: ص:  >  >>