للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قدم واحدة في الاجتهاد والعبادة، وقلة المبالاة بعيشه كيف كانت، ودنياه كيف نقصت، متقللا من قليلها بجهده، مقبلا على الآخرة بكليته، يتصدّق بفضله، ويواسي في كفافه، ويؤثر من قوته، إلى كرم عزيز، وقنع باليسير.

ومما حكي عنه من الورع أنه لما رأى ما ينال الناس من الظلم في كرى «١» الخليج الواصل إلى الاسكندرية من النيل، أعرض عن مائه، وحمله التدقيق في الورع على أن حفر له بئرا كان يشرب منها، وينقل الماء منها بالجرار، على دابة ليسقي بستانه، وكان إذا وجد رطبة ساقطة تحت نخلة ولم يشاهد سقوطها منه لا يرفعها، ولا يأكلها، لاحتمال أن طائرا جناها من نخل غيره، وسقطت منه تحت نخله، وبالجملة لم يخلف بعده مثله «٢» وحكى علي بن حمزة النقيب، عن أبي المظفر يوسف بن عبد العزيز الدمنهوري، قال: أتيت الشيخ أبا القاسم وتهيبته أن أطرق عليه الباب، فوقفت لعلي أجد من يستأذن لي عليه، فسمعته يبكي وينشد:

كيف برئي وداء وجدي عضال ... ونهوضي وعثرتي لا تقال

وعزيز على أهون شيء في هوا ... هـ ما قالت العذّال

يا نسيم الشمال من أرض نجد ... فيك للصب صحة واعتلال

لي بالجزع حاجة ليس تقضى ... وغريم يلذ منه المطال

يا لقومي كم ذا تسل سيوف ... لقتالي وكم تراش نبال

أنت أحلى في القلب من أمل ... القلب إذا ما تناهت الآمال

قال: ولم يزل يرددها وهو يبكي ويشهق، حتى خفت عليه، فطرقت عليه الباب، فقطع إنشاده وسكّن زفراته، وغيّض عبراته، ثم أذن لي، فدخلت عليه، فقال: لعلك سمعت شعرا كنت أنشده؟ فقلت: كان ذلك، ولقد خشيت عليك والله مما كنت فيه. فقال: يا هذا! تذكرت عشقة منذ عهد الصبا أنا إلى الآن في سكرها، وربما كانت في وقت أشد من

<<  <  ج: ص:  >  >>