أخذ من كل العلوم الحكمية بنصيب موفّر الأجزاء، موفّر الجناب، يعزى إليه بالاعتزاء.
قدم مصر واستوطنها، وقطع بفضله من قطنها، وكان فريدا في أنواع العلم، إلا أنه عرف بالطب أكثر من بقية ما عرف به من المعارف، وحصل من التالد والطارف «١» ، وخدم السلطان وتقدم الرهط، وتفرد في جماعة الأطباء، وأقرأ العلم وأفاد، وباشر المرضى وأحسن العلاج، وعدّل منحرف كل مزاج، وكان وافر الحظ من السلطان والأمراء والوزراء، وسائر الكبراء، وكان بصيرا بالنجامة، متقدما في علمها، وكان يتكلم فيها مع السلطان وأرباب الدولة، وحصل النعم الجمّة، والأموال الجزيلة، وخدم بنوه السلطان، وتقدموا في الخدم، وصحب ابنه جمال الدين السلطان حين همّ بالحج أيام سلطنته الثانية، فلما أقام بالكرك أقام معه، وترك أسبابه وراءه بمصر منقطعة، فرعى له السلطان حق انقطاعه، وزاد في قدر إقطاعه، وولاه الرياسة حتى تجاوز قدر الرؤساء، وقرّبه حتى كان من أخصّاء الجلساء، وكان لا يزال يفاوضه في كل حديث ويطلعه على أكثر الأمور، ورفع إليه يوما الصلاح ابن البرهان قصة يسأل فيها الإعفاء من وظيفته في الطب بالخدمة، وكنت سفيره فيه، فقال لي السلطان: هذا الصلاح أفضل من إبراهيم- يعني ابن المغربي- وما يطلب ترك الخدمة إلا لأجله، لكونه مقدّما عندنا عليه، فقل له: نحن نعرف فضيلتك وكبر قدرك، وإنك أفضل من إبراهيم وأكبر، ولكن إبراهيم له علينا حق الخدمة من وقت كنا في الكرك، وهو صاحبنا ما هو طبيب عندنا. فبلّغته الرسالة بنصّها، فسكت على مضض!.