لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل
فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى مست ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت إنك لأنفعهم لي، ولقد حسنته وأجدته، وأحسنت والله، ووصله وكساه، فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قلنا له: كيف لو سمعت واضع هذا، قال: وإن له [ص ٦٧] لواضعا غير هذا؟ قلنا: نعم، قال: وأين هو؟ قلنا:
بمكة، قال: فلست بعازم حجا حتى أبلغه «١» ، فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته، وكنت فيهم، فقدمنا مكة فأتيناه جميعا، فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فرحبوا به وأدنوا مجلسه، وسألوه عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وعظم ابن سريج موضع جرير، وقال: سل ما تريد، جعلت فداك، [قال أريد] أن تغنيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك «٢» ، قال: وما هو؟ قال:
يا أخت ناجية السّلام عليكم
فغنّاه ابن سريج، وبيده قضيب يوقع به وينكت، فو الله ما سمعت شيئا أحسن من ذلك، فقال جرير: لله دركم يا أهل مكة، ما أعطيتم: والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم يسمع هذا صباحا ومساء، كان أعظم الناس حظا ونصيبا، وكيف ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم «٣» ، وكثرة فوائدكم.
قال إسحاق: كان ابن سريج جالسا فمر به عطاء وابن جريج، فحلف عليهما