في عدم مساواته؛ وهو مادة أهل الأدب، والذي ينسلون إليه من كل حدب، إلا أنه لم يقدر أن يكون مكلّفا، ولا استطاع أن يكون لغير أمالي خاطره متلقفا؛ وهذا مذهب غير مذهب كتاب الإنشاء المكلفين اتباع غرض غيرهم، حتى يقسروا خواطرهم على ذلك؛ على أن الرجل فضله عظيم، ومثاله الدهر به عقيم، وقدره جليل، ونظيره قليل؛ منبع الفضائل ونبعتها، وصيت الفواضل وسمعتها؛ توقته الأعداء سماما، وألقته الأولياء سهاما؛ وكان معدن [كلّ] نائل، وموطن كل طائل؛ باري غرب يريش ويبري، ويجيش قليب خاطره ويجري، أبرز مالم يستطعه الأوائل، وأحرز قصبات السبق على كل قائل.
وكان «١» سبب وضعه لمقاماته، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال:
كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام، فدخل عليه شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة؛ فسألته الجماعة من أين الشيخ؟ فقال: من سروج «٢» ؛ فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد؛ فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثّامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شروان بن خالد القاشاني «٣» وزير المسترشد [بالله]«٤» ؛ فلما وقف عليها أعجبته، وأشار إليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة؛ وإلى الوزير المذكور أشار الحريريّ في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع «٥» .