فقلت: لا سقى الغيث الله أديبا لا يعرف الغيث؛ وقلت له: إنّ الغيث هو المطر، وهو السحاب، كما أنّ السماء هو المطر وهو السحاب؛ وقالت الجماعة: قد علمنا أيّ الرجلين أشعر، وأيّ الخصمين أقدر، وأيّ البديهتين أسرع، وأيّ الرويّتين أصنع؛ فقال أبو بكر: فاسقوني على الظّفر؛ فقالوا: كفاك ما سقاك.
ثم ملنا إلى الترسل، وقلت: اقترح عليّ غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، وآخر ما تبلغه بذرعك، حتّى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسّل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، بل إن أحسنت القيام بواحد من هذه الأصناف، ولم تخلف كل الإخلاف، فلك يد السبق وقصبته؛ ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتابا نقرأ منه جوابه، هل يمكنك أن تكتب؟
أو أقول لك: اكتب كتابا على المعنى الذي أقترح لك، وانظم شعرا في المعنى الذي أفترع، وافرغ منهما فراغا واحدا؛ هل كنت تمدّ لهذا ساعدا؟
أو أقول لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقوله وأنصّ عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتّى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوّق لهذا الغرض سهما، أو تجيل قدحا، أو تصيب نجحا؟
أو قلت لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقترح، لا يوجد فيه حرف منفصل من واو تتقدّم الكلمة، أو دال تنفصل عن الكلمة، بديهة ولا تجمّ فيه قلمك، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك:
اكتب كتابا خاليا من الألف واللّام، لا تصبّ معانيه على قالب ألفاظه، ولا تخرجه عن جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفا ممدوحا، أو يبعثك ربّك مقاما محمودا؟